}

محمد بنيس.. حيرة الكتابة ونشوة البوح

آراء محمد بنيس.. حيرة الكتابة ونشوة البوح
عمل للفنان الفلسطيني أسامة دياب

                   خذ كأسك من نبع

                    لا تدركه

                    شبحاً يتكوم بين كروم

                 واذهب يوماً يومين ثلاثاً

                ضوئ  حلقك

                 حتى أحراش الحمى.

 محمد بنيس، نبيذ، دار رياض الريس، ط،1، 2003، ص:30.

 

ـ 1 ـ

الشرب عتق للرقبة من الوقوع في مهاوي العادية. والشرب انعتاق الذات من حمى الحاضر بتربعها مؤقتاً أغصان البينية. الشرب وسيلة الصعود إلى البرزخ حيث اطمئنان الروح وانفلاتها من وشوشات الماضي والمستقبل. هو الإقامة في الفراغ الفاصل بين نقط الشين الثلاث النازلة على سين "شرب" وبين أسنانها المتلقفة للكائن.

للشرب أدوات طينية أو زجاجية في الغالب، فلا شرب بأدوات ( أوانٍ) بلاستيكية مثلاً. بهذه الأدوات يؤدي الشرب فعلته التي هي السكر. وللشرب طقوس بدونها يبطل المفعول، ويتحول الفعل إلى العادية التي ما هي من نتائج الشرب.

اشرب على وزن اقرأ، فما الذي كان سيحصل لو أن البدايات الأولى كانت هكذا:

ـ اشرب. فشرب وتم الارتواء.

لا حاجة لفعل القراءة في هاته الحالة. إذ لا معنى للقراءة في حالة الارتواء.

القراءة هي إشباع للحظة عطش مُرٍّ أو مالح، أو لا طعم له أو مجهول الطعم.

بين الشرب والقراءة مسافة زمنية هي ما يعطي للصفتين قيمتهما. الوزن نفسه، الإيقاع نفسه: افعل ( اشرب، اقرأ) و النتيجة نفسها إيقاعاً. المقروء يحدد للقارئ اتجاهه، والمشروب يحدد للشارب مصيره. جزاؤك حسب ما أنت فيه، وسكرك هو ما سيقودك إلى هنا أو هناك، يميناً أو يساراً. اشرب فعل أمر يقوله الحلق للجسد. هو عقلي بمنبه عقلي أو لاعقلي هدفه هو تعطيل هذه الآلة مؤقتاً ( العقل) للدخول في طقس الارتواء والاحتماء باللاعقل من العقل.

كأس الشرب وسيلة ثمينة لتلطيخ الجسد بهذا السائل الصافي. أداة بلورية ثاقبة حين ترتطم بالشفاه تحدث رجة للبدن، وتقود للشطح البراني والجواني، أعني السكر. والسكر بالشرب هو التعويل الأكبر الذي يفرج عن مسام الحنجرة والقلب، ويزيح غمة الصدر، وتلك هي لحظات الشعر الأولى. كلاماً، سلاماً، لذة بعد ألم ضروري بفعل رفع اليد ومعاودة الرفع والإفراغ. اشرب، اقرأ، اكتب. علاقة أخرى فمتى تتم الكتابة؟ هاته العملية الصعبة والمعقدة. هل أثناء الشرب أم أثناء القراءة أم بينهما؟ إنها مزيج الضدين. القراءة عملية ذهنية عقلية، والشرب عملية حاجية آلية، والكتابة هي هذا الإفراج عن المشروب والمقروء بشكل آخر. الكتابة هي السكر إذن، كما أن القراءة قد تكون سكراً مسكراً، كما أن الشرب قد يكون هو السكر نفسه.

نشرب لنسكر، نقرأ لنسكر، ونكتب لنسكر. والكأس حاضرة في هذه الثلاثية المترابطة من الباتّ إلى المتلقي.

ما مقدار الشرب المؤدي للإسكار وإقامة الحد الشعري على هذا الفاعل "اللعين"؟ هل يقاس بالمقدار كمياً أم بالفعل بما أن نتيجة القليل من السكر هي نفسها نتيجة الكثير؟

السكر ـ يقول لك الشاعر محمد بنيس ـ هو توريطك في عالمه. كل كاتب وشاعر حديث يقول لك هذا. وكم من شاعر عاش في ماض سحيق وما زال حديثاً لاتصافه بهذه الصفة. صفة قدرة دخوله إلى مسام القارئ وتغييرها ولو قليلاً. المتنبي، أبو نواس، بشار بن برد، المعري وغيرهم كثير، رامبو وفرلين وسيرج بي وأدونيس ومحمد بنيس...أسماء نذكرها بهاته اللاعادية في الكلام، وكل لاعادية في الكلام مآلها الإسكار، وبالتالي تعطيل العقل. هذه الآلة الهائلة المسيطرة على مصاف السياسيين من قبة البرلمانات إلى أرقام غرف البنك الدولي. ومن عد جثت ضحايا الحروب والمجاعات، إلى جدارات الفصل العنصري هنا وهناك.

عطّلِ العقل أيها الشاعر واحمله على كفك ودعه يتقدمك وأنت تحمل كأسك، أو تحملك كأسك بما أن أداتك العقلية ستكون في كفك. تقدم فمقياس سيرك هو مقدار عطشك الداعي للشرب. اشرب ولا تبالي بهذا الركام من التأوهات التي يطلقها الكبير والصغير في كل ساحات ودروب الذات العربية المريضة من الظفر إلى اللغة، من ربطة العنق إلى الجلباب.

وقال: اشرب فشرب فارتوى فسكر وأقاموا عليه الحد. حد من؟ هل هو حد الخارج عن عقله.

 

ـ 2 ـ

الحيرة خروجٌ علني عن العقل، أو هي خروج العقل عن معقوليته. أية معقولية؟

حين أصدر محمد بنيس ديوانه نبيذ[1] (الصغير) وديوان نبيذ[2] (الكبير) هل فعل ذلك للخروج من الحيرة أم لمعاودة الدخول لها؟

كل كتابة من غير حيرة لا يعول عليها بما أن كل سكر لا يكون عن شرب لا يعول عليه[3].هذه هي القاعدة الصوفية الأكبرية. والكتابة تقود اليد النازلة على الورق أو على الآلة . يد شاعر. يد مدماة بألم الوقت ونار الوجد الحارق للذات وللناس. يد تحاول فك خيوط حداثة معطوبة كما يسميها محمد بنيس[4] . هو عطب اللغة والثقافة الممزوج بالسوقية والإعلام الموجه وجهة المنفعة الضيقة لا الحق. والحيرة والحسرة حاضرة دائماً والعذاب أيضاً. يقول محمد بنيس "في أعماقي شحب النحيب. لا ثناء ولا حمد. تعذبني هذه الحالة. ولا أعرف كيف أتخلص من كل ما عشت من أجله، في أرض يسمونها عربية"[5].

عربية متجذرة في التاريخ، وفي ذات الشاعر الباحث أيضاً عن مخرج، ومن ثم مشروعية الحيرة المرتبطة بفقدان قد نسوقه هنا على لسان محمد بنيس: "بأية حيرة علي أن أكتب؟ بأية حيرة أنطق أو أناجيك أنت يا أنا؟ لا شك في أن السؤال حفرة موازية، أكزل إليها بقدمين ملتهبتين. وهذا الضجيج الذي يعتفلني، يسرق مني الكلام، هو ما يغريني بالنزول، صامتاً. وعلى لساني شحوب لا يفارقني. أنظرُ ولا أنظرُ. أمضي. ...ولكنني مع الصحو أنشد، بأي حيرة؟[6]

في ختام ديوان "سبعة طيورّ" يورد الشاعر محمد بنيس هذا المقطع الدال:

هي ذي

جذورك في الرمال تشعبت

صوت يسيل بين

سفوح تتكلم

......

لكن النشيد ارتفع

من يد تبحث عنك بين طيور

يد زرقاء في

يدك

لغة الطريق[7]

اللغة والصمت تقابلها الحيرة بالشرب، والإسكار الحاصل هو ما يهدئ الخاطر أدبياً، اجتماعياً، وثقافياً. أليس هذا ما ناضل من أجله محمد بنيس طيلة حياته وما زال؟

 هوامش:

  1. محمد بنيس، نبيذ، متتاليتان شعريتان، دار توبقال ـ مؤسسة روايومون فرنسا، 1999 نسخة عربية فرنسية (60 صفحة)
  2. محمد بنيس، نبيذ، دار رياض الريس، ط،1، 2003، ص:30.( 225 صفحة).
  3. [3] ابن عربي، الرسائل/ رسالة لا يعول عليها، دار الفكر، ط، 1، 1997. ص: 252.
  4. [4] محمد بنيس الحداثة المعطوبة، دار توبقال للنشر، ط: 1، 2004.
  5. [5] نفسه ص : 27.

[6] نفسه ، ص: 28.

[7]  محمد بنيس، سبعة طيور، دار توبقال، ط: 1، 2011، ص: 181-182.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.