}

فنّ إرهاب الشعوب

عيسى مخلوف 12 نوفمبر 2017
آراء فنّ إرهاب الشعوب
أمبرتو إيكو

 



ظاهرة الاستبداد والعنف رافقت المسيرة الإنسانيّة منذ بدايتها. تغيّرت فقط الوسائل المعتمدة فيها وكيفيّة استخدامها. التطوّر العلمي والتكنولوجي الذي حقّق للبشريّة قفزة نوعيّة هائلة في مجالات كثيرة، نتج عنه أيضاً تهديد غير مسبوق. لقد تطوّرت صناعة الأسلحة وصرنا نتحدّث عن أسلحة دمار شامل، نوويّة وهيدروجينيّة وجرثوميّة وكيميائيّة. في مرحلة الإرهاب المعولَم السائدة الآن، تزداد التساؤلات حول أسباب العنف ومنابعه وحول كيفيّات مواجهته والتخلّص منه، وكذلك حول الشعبويّة وأنظمة الاستبداد. في موازاة الكتب الفكريّة التي تعالج هذه الموضوع الآن، تلتفت بعض دور النشر إلى كتب ونصوص سبق أن نُشرت وتحمل تواقيع كتّاب ومفكّرين معروفين منهم، على سبيل المثال، الكاتب الإيطالي أومبرتو إيكو والمنظّرة السياسيّة الألمانيّة حنّة آرنت.

بالتزامن مع تنامي التيّارات الشعبويّة في الولايات المتّحدة الأميركيّة وأوروبا، أصدرت دار "غراسيه" الفرنسيّة في شهر نيسان/ أبريل الماضي كتيّبًا بعنوان "التعرّف إلى الفاشيّة" ويتألّف من نصّ كان أومبرتو إيكو قدّمه في جامعة كولومبيا في نيويورك، ثمّ نُشر للمرّة الأولى عام 1995. في هذا النصّ، الذي يزاوج بين الذاتيّ والموضوعيّ، يحكي المؤلّف عن العلاقة بين الشعبويّة والفاشيّة كما عاينها بنفسه في إيطاليا إبّان الحرب العالميّة الثانية، والتي تلتقي في بعض جوانبها مع النازيّة والستالينيّة، ومن خصائصها: رفض الثقافة والحداثة، تمجيد الأمّة، التبجُّح بالبطولة، الشعور بالانتماء إلى الشعب الأفضل في العالم، الخوف من الآخر ورفض الاختلاف... ويحذّر إيكو من "الفاشيّة البدائيّة والأبديّة" التي يمكنها أن تعود في لباس مدنيّ وأن تكون مقنَّعة بألف قناع، ليخلص إلى القول: "من واجبنا أن ننزع عنها هذه الأقنعة وأن نفضح كلّ أشكالها الجديدة، كلّ يوم وفي أيّ مكان في العالم".

في هذا السياق، صدر مؤخّراً عن "دار بايو" في باريس كتاب بعنوان "إنسانيّة ورُعب" لحنّة آرنت التي يشكّل نتاجها أحد مراجع الفكر السياسيّ الأساسيّة في القرن العشرين. يتألّف الكتاب من مجموعة أبحاث ونصوص تتمحور حول موضوعات عدّة أبرزها النزعة الفاشيّة، الفكر الاستبدادي و"فنّ إرهاب الشعوب"... بعض هذه الأبحاث يُنشر للمرّة الأولى باللغة الفرنسية، ويأتي ضمن رؤية طالعتنا في الكتب التي تناولت فيها آرنت أسس التوتاليتاريّة وطبيعتها.

تلتفت المؤلّفة إلى التجربتين النازيّة والبولشفيّة لفهم معنى التسلُّط، وتركّز على كيفيّة تَعامل هاتين التجربتين مع المعتقلين داخل السجون بحيث يُعزَل السجين كلّيًا عن العالم الخارجي ويُنظَر إليه بصفته ميتاً، وحين يموت بالفعل، لا يُعلَن عن موته. تقول استراتيجيّة الموت هذه إنّ السجين ميت بالضرورة، وإنّه لم يوجد أصلًا، ولا جدوى من أيّ محاولة لمعرفة شيء عن مصيره. بحسب آرنت، السجون في الأنظمة الاستبداديّة مختبرات يتحوّل فيها المعتقلون إلى كُتلة واحدة من ردود الفعل حيال ظروف تتكرّر دائماً بوتيرة آليَّة متشابهة. داخل السجن، لا يعود الفرد شخصًا محدّدًا، قائمًا بذاته، بعد أن يُنزع عنه اسمه وهويّته وكلّ ما يتميّز به.

يعمل النظام الاستبدادي، لكي يتمكّن من بلوغ أهدافه داخل السجن كما في المجتمع بأكمله، على تجريد الإنسان من مقوّمات وجوده، فيفرض رقابة كاملة ليس فقط على الحرّيّات الفرديّة والعامّة، بل أيضاً على النوازع والانفعالات والأحاسيس وحتّى على الأحلام، وذلك ليصبح سائر أفراد المجتمع وكأنّهم شخص واحد مُكرَّر ومُستَنسَخ.

يتعلّق نجاح نظام الاستبداد، إذاً، بمدى قدرته على تطويع الكائنات البشريّة وتدجينها والتعاطي معها كحيوانات مُعدَّلة. أمّا المُخلصون الوحيدون لهذا النظام فهم الذين ينصاعون كلّيًا لإرادة العنف. لا رأي لهم ولا موقف. يؤدّون وظيفتهم، مهما كان نوعها، بصورة عمياء. ويتماهون مع دورهم الذي يختزل حياتهم، وهم بذلك جزء من أدوات القهر.

إشاعة الرُّعب ليست وسيلة من أجل غاية، بل هي جوهر الاستبداد نفسه والهدف السياسيّ الأعلى منها هو جعل أفراد مجتمع ما في حالة دائمة من الخوف والامتثال للسلطة الواحدة المُطلَقة.

موضوع الطّغيان والسلطة الشموليّة شغلَ الكثير من المفكّرين والفلاسفة والكتّاب في القرن الماضي، والأفكار التي أتينا على ذكرها تحيلنا إلى مقولات بعضهم، ومنهم، بالأخصّ، عالم الاجتماع بيار بورديو والمفكّر ميشيل فوكو. لقد عالج الاثنان، كلٌّ وفقَ رؤيته ومنهجه، مسألة السلطة والعنف. وفي حين ركَّز بورديو على العنف الرمزي، لاحظ فوكو أنّ الطاغية هو الذي ينقُض العقد الاجتماعي، مُكوِّن المجتمع وبقائه. والطاغية، بحسب تعبيره، يولد وحشاً ويموت وحشاً. "يجسّد الجريمة القصوى ويفرض بالقوّة لا عقلانيته التي تصبح هي القانون العامّ وعلّة وجود الدولة".


 *كاتب وشاعر لبناني مقيم في باريس.

 

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.