}

أحمد بوزفور الحالم

أحمد العمراوي 9 أكتوبر 2017

رأيتُني أعمى، تحت المطر. كنت شخصين اثنين: الرائي والمرئي. الرائي قابع خلف المشهد يَرى كل شيء ولا يُرى، والمرئي سائر أمامه يتخبط تحت المطر، أعمى، لا يرى شيئا ولكنه يتقدم".

أحمد بوزفور، ققنس، مجموعة البحث في القصة الصغيرة، ط،1، 2002 ص: 7.

 

الكتابة عملية يدوية في الظاهر، ظلمانية في العمق، تخرج من رحم سحيق قادم من بقايا الطفولة الصغيرة. إنها أحلام متحركة ترج القلب وتفجر المكبوت. كل كتابة هي تفجير للحظة ما في الذاكرة القصيرة أو الطويلة الأمد.

 اذْكرْ فتَذَكَّرْ. أَذكرُ ما تَذكّرتُ. الذاكرة تجميع لرؤى قد تكون ضبابية، ولكنها غرس لأظافر في جهة ما من المخ، من أجل اقتلاع المكتوب. مكتوب صغير مشاغب. يود الكاتب أن يظل كذلك مشاغبا. لا كتابة بلا شغب. تنظيف الأظافر في الكتابة عملية جراحية غالبا ما تبوء بالفشل، وتجعل الكاتب يعود لأصله، لطفولته، أي لبراءته إذا استطاع، وإذا لم يقدر حل به عصف لا قدرة له على تجاوزه إلا بالانتحار الكتابي، أي التوقف عن الكتابة.

 تشتعل الكتابة في جهة ما من ذات الكتاب الشاعر فتعطي تأججا عنيفا. من أين يأتي الإشعال؟ هذا الطويل الممتد كالزرافة المشتعلة.

 اشتعال الزرافة هو استطالة وتطويل العنق الكتابي، أي يد الكاتب. تطويل لا تطاول. التطاول هو انكسار عنق الزرافة، والاستطالة عملية طوعية يختارها الكاتب، لأنها من صلبه.

 استبدّي أيتها الزرافة العاصفة بكل شيء، بيني وبينك هذا الورق الققنسي، أرممه فيدفعني دفعا لجهة الأحلام والرؤى.

كتابة الأحلام هي هروب من العادية، وارتماء في أحضان الخيال والتخيل، وعودة للنبع الأول، أي إلى أصل الكتابة، أي هذه الطفولة الطفلة التي لا تكبر كالقصة القصيرة التي هي صغيرة في الحجم: "تراها من الخارج فتعتبرها مجرد قصة، وقصيرة فوق ذلك (ولكنها) كبيرة من الداخل بأحلامها وطموحاتها"[1]  

  ضد الاستلاب وضد المحرابية ، وضد النظافة والوضوح، ضد النفاق، ضد اليقين، وضد التبيين والدغدغة والحياد، ضد طهارة الحياد، ضد التصعيد والمنطق، وضد الملل والاطمئنان وضد النموذج."[2]

 تلك هي الكتابة في القصة، في الشعر، في الحياة. ولأنها كذلك فقد تتخذ تقية تقيها من هذه المباشرة القاتلة. الخطابة والمباشرة تقتل الأدب، ولذا يلتجئ الكاتب إلى منطقة الأحلام بشكل مباشر أو غير مباشر. يستنجد بهذه الصفة ـ صفة الحلم ـ لتحقيق رغبات لم ولن تتحقق، وإذا ما تحققت فإن ققنس، هذا الطائر الأسطوري، سيصدح ويصيح في أيامه السبعة الأخيرة قبل موته. موت وتضحية من أجل البقاء كبقاء القصة قصيرة في أضدادها الضرورية.

 اصدح يا ققنسي ولا تمت، اصدح فإنك لن تموت في بلاد المغرب، قد تموت في أساطير اليونان، ولكنك ستعيش في بلدان الحداثة.

 الكتابة /الحلم التجاء إلى توطين أسطورة في الذات بدل أخرى. والكتابة الحلمية هي كتابة أسطورية تقيم في ظل ظليل، إذا خرجت منه أحرقت معها أوراقا وجريدا، ولم تُبق إلا الماء.

احلم يا صاحبي يقول لك الكاتب أحمد بوزفور المستيقظ الراج لأحلامنا. استيقظوا لتحلموا. الحالم في الكتابة هو مستيقظ موقظ للآخرين بتلوين لغوي خيالي، لا نستطيع تقبله بسهولة.

  تفسير الحلم في الكتابة يتخذ بعدا خاصا يقوده المحلل المتحلل من قيود وضغوط النبرة اللغوية الساقطة في عادية القول.

" رأيتني أعمى، تحت المطر. كنت شخصين: الرائي والمرئي"[3]  

] الكاتب الذي يحلم ذاته يرى ما لا يراه الآخرون، وإذا ما عبر عن رؤياه سقط الرائي والمرئي، وإذا عبر عن سقوطه هذا أسقط معه القارئ المتلقي في لذة القراءة/ الكتابة.

 كل كتابة تفتقد حس الحلم هي كتابة تسجيل عيني (من العين)، لا يستطيع أن يقول ما يقوله حقيقة، لأن الكتابة في هاته الحالة ستتحول إلى وهم الكتابة.

الكاتب الحالم أنه يحلم هو كاتب هارب من واقع الوهم إلى وهم الواقع بمرآة يدوية تسجل لحظات الحلم لا الحلم ذاته.

بين لحظة الحلم، ولحظة كتابته، ولحظة تفسيره يمتد نهر من الكلام الملغز. وكل كلام ملغز هو كلام "خالد" ترفضه العادية.

 "نحن نكون أحراراً خلال النوم، بل أكثر حرية مما نكون عليه خلال اليقظة [4]. كتابة الحلم هي كتابة تسعى إلى حرية مستحيلة، إلى الانعتاق من ظلمة النص الأصلي، إلى الاشتعال زرافة مشتعلة. في انتشارها تتم عملية إخراج الكتابة التي ستتحول "مكتوبا على الكاتب". لأنها مشتعلة بالكلام الحي لا بناره، رغم أنه لا اشتعال بلا نار، وذلك سر من أسرار الرماد.

     كلما اغترب الحلم ازداد الكاتب اشتعالا. غرابة الحلم هي غربة أخرى للكتابة الغريبة. والغربة في الكتابة الحلمية هي غربة الذات عن ذاتها لا عن آخرها. وذلك شيء كاف لاشتعالها. اشتعال يردد بقوة: اشتعلي أيتها الغريبة فطوبى للغرباء. أليست الكتابة سفراً حراً في الواقع نحو المدن البكر؟ [5 

 



[1]  أحمد يوزفور. الزرافة المشتعلة، منشورات المدارس، ط،1، 2000 ص11.

[2]  نفسه ،  ص، 15 – 20.

[3]  ققنس : ص 7.

[4] إيريك فروم، اللغة المنسية، ترجمة حسن قبيسي، المركز الثقافي العربي، ط، 1 ، 1995 ، ص، 31.

[5]  الزرافة المشتعلة، ص: 23

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.