}

مسرحة الموت سورياً

مها حسن 8 أكتوبر 2017
آراء مسرحة الموت سورياً
لوحة الفنان السوري تمام عزام

كان بيت أهلي يطلّ على ساحة صغيرة في حارة مغلقة، يحتلها أولاد الحارة عادة للعب الكرة، بسبب موقعها الآمن وابتعادها عن خطر مرور السيارات وإزعاجها للاعبين. وكانت نساء الحارة وبناتها يستفدن من تلك الفسحة الآمنة، إذ بنى أبي أمام باب دارنا مصطبة حجرية واسعة إلى حدّ ما، كانت بمثابة (الترّاس) الحديث في المقاهي الأوروبية.

في كل صباح، تفيق أمي، لتفتح باب الدار، ثم تتجه إلى الحمام، ثم تقوم بتحضير القهوة، تاركة باب البيت مفتوحاً، وكأنه علامة على أن مصطبة الاستقبال صارت جاهزة. على العكس من عادة إغلاق الأبواب للشعور بالأمان، كان أمان أمي يبدأ من لحظة فتح الباب، واختلاط المشهدين الداخلي بالخارجي، حيث تلك المطصبة بمثابة منصّة مسرح، تفصل كواليس أمي عن جمهور الأطفال والعابرين.

لم تكن أمي الممثلة الرئيسية في تلك القطعة المسرحية التي استمر أداؤها طيلة حياتي في سوريةـ إذ وُلدتُ في ذلك البيت، وغادرت بلدي منه ـ بل كان الأداء جماعياً، وكافة نساء الحارة كنّ يشكلن جوقة التمثيل المدهش.

كنت أعود من المدرسة، ولاحقاً من الجامعة، وبعدها من العمل، لأتعثر بمشهد التجمع النسائي فوق المطصبة: نساء ملونات، من أعمار مختلفة، يجلسن ليقمن بأعمال متعددة ( تقميع البامياء، تقطيع الفاصولياء، تنقية العدس، لف ورق العنب، حفر الكوسا..)، وغالباً ما تتعاون تلك النساء، ليقمن في وقت خرافي بإنهاء عمل الأخريات.

تنضم إلى منصة المسرح نساء طارئات. أن تأتي إحداهن لزيارة قريبتها (ابنتها، أختها، كنّتها..) فلا تجدها، تمرّ قرب المسرح، تلقي السلام، تناولها إحدى الجالسات كرسياً لتنتظر قريبتها الغائبة، فتشارك الضيفة جوقة الممثلات، وتسرد حياتها، إلى أن يحين موعد عودتها، فتغادر الحارة، وكأنها جاءت فقط لتؤدي دورها في مسرحية لم تتوقّع أن تشارك فيها.

حين قُصف بيت أهلي مؤخراً، وجدت أمي نفسها مجدداً، في حالة مشهدية، وانضمت في أدائها الاستثنائي بسبب الحرب إلى تراجيديا لم تكن في الحسبان، لتظهر من خلف الأنقاض، واقفة تتأمل جمهور الحارة. نسيت أمي آنذاك أن تنحني ونسي الجمهور أن يصفق، لأن الجميع كان مهتماً بإخراجها آمنة من بين الأنقاض، خشية أن ينهار الجزء الصغير من السقف، الذي كان متهدلاً يُتوقع سقوطه في كل لحظة.

لم أتخيل وفاء أمي اللامقصود للمسرح. عاشت حياتها على المصطبة، وغادرت بيتها في مشهد مسرحي مدهش، أمام تشجيع الجمهور وحماستهم لإنقاذها.

هذا مقطع صغير من حياة السوريين وموتهم الممسرح بطريقة تفوق قدرات عباقرة الإخراج في العالم. لنأخذ مقطعاً آخر: مجموعة أطفال يلعبون معاً، يسمعون صوت الطائرة، ترتفع الرؤوس في حركة واحدة، متتبّعة مصدر الصوت. هذه الحركة غير القصدية، التي ستستفيد منها السينما لاحقاً، هي أيضاً بذرة أداء مسرحي تجاوز الفن المدروس المرتّب له.

مقطع آخر: صبية تفتح كاميرا هاتفها المحمول في مدينة غازي عنتاب التركية، وتسقط من شرفة بيتها، لتهوي على الأرض جثة محطّمة، بينما الهاتف يصوّر المشهد ويبثّه على صفحات التواصل الاجتماعي. موت مباشر بطريقة مسرحية لم تقصدها الفتاة غالباً، ولا يعرف أحد لماذا سقطت تلك الشابة المُحبة للحياة، من شرفة بيتها لتنتهي حياتها بتراجيديا تفوق تلك التي صنعها الإغريق والرومان والأقدمون.

تنقل شاشات الهواتف مشاهد النساء والأطفال المذعورين الهاربين من تحت القصف، الخارجين بثياب يملؤها بياض الحجارة المحطمة المتناثرة والمدبوغة بالدم. وجوه هلعة ترتجف أمام الحشود، ونظرات تائهة تحاول التمييز بين الحياة والموت، فتصرخ طفلة لم تستوعب بعد: أنا عايشة! مفاجأة من أنها لم تمت تحت الأنقاض.

هكذا يستطيع الفن أن ينسحب خجلاً. لم يعد أمام المسرحي أو السينمائي، دافع فني خالص، لتحضير النص والبروفات والكاميرات ودعوة الجمهور. المشهد هنا مكتمل، يؤديه الشعب السوري دون خبرات مسرحية سابقة، إذ يجد نفسه في لحظة فارقة بين الموت والحياة. ضمن هذه اللحظة، وتقلباتها، وصراعها بلغة المسرح، وتأزم نقطة الصراع، يرتجل السوري نجاته.

وحين لا يتمكن بعضنا من مشاهدة الفصل، فيجري في الكواليس مثلاً، تجتاح المخيلة ملايين السيناريوهات، للاقتراب من حقيقة المشهد الذي تمّ في الخفاء. إذ قُتلت شابة رائعة الجمال، تحمل ابتسامة مليئة بالحياة، برفقة أمها، المتحمسة للحياة وللتغيير، في مشهد خلفي، لم يعرف أحد حتى اللحظة كيف تمّ. إنه موت جديد للسوريين، بل للسوريات، بطريقة هوليودية، تُغيّب العدالة وتسخر منها، لينتصر المجرمون وقساة القلوب.

يُقال أن الأم وابنتها ذُبحتا، ويُقال طُعنتا في أجزاء متعددة من جسديهما. وتشتغل المخيلة الخائفة للناجين، لتصور لحظات الفصل بين الموت والحياة، اللحظات التي عاشتها الأم وابنتها. لتنهال الأسئلة المذعورة: من منهما ماتت قبل الأخرى؟ ماذا قالت للقاتل؟ توسّلت إليه، بكت، رأت أمها أو ابنتها تُقتل أمامها قبلها..؟. أسئلة خائفة يتماهى معها السائل، كأنه يضع نفسه مكان القتيلة، أو يخاف وإن لاشعورياً، من موقف مماثل قد يحدث له.

اغتيال بسلاح كاتم للصوت في شارع عام. طعنة سكين في شارع معتم. قتل جماعي عبر طائرات لا تفرق بين عدو وصديق، بين طفل وكبير، هكذا تتعدد مسارح القتل وسيناريوهات الموت السوري.

يتحول الشعب السوري منذ سنوات، إلى جوقة مسرح قديم، يبكي ويستنجد ويصلّي ويطلب العون، يتفرج العالم على مسرحياتنا. بل صار بعضه يستمتع بمشاهد القتل والتعذيب، وراح يبحث عنها وينتظر منها المزيد. أما نحن السوريين، فإننا ننتظر فقط إسدال الستار، حتى لو ظل الموت قابعاً خلف ستائر النهاية، لأننا على الأقل، مللنا من فرجة الآخر على مقتلنا، ومن عبارات باردة تحمل تعاطفاً كاذباً وكليشيهات غير أصيلة، لأن العالم كما يبدو، لم يعد يهتم بأفلام الرعب المفبركة، بل صارت متعته، مشاهدة مقتل الشعوب على مسارح مباشرة، موت حقيقي، وجثث من لحم ودم، دون إكسسوارات أو تمرينات على الأداء.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.