}

مكر اللغة ولعبة المصالح

شكري المبخوت شكري المبخوت 2 أكتوبر 2017
آراء مكر اللغة ولعبة المصالح
تجهيز للفنانة العمانية ريهام نور الدين

للغة مكرها وخداعها وأحابيلها ونحن نستعملها مستعيدين ما ترسّخ في أذهاننا من عباراتها. فهي ترشح بضروب من العبارات المتكلّسة أحيانا، السائرة أحيانا أخرى مجرى الحكم أو الأمثال، المنتجة أحيانا ثالثة، وهذا الأخطر، لتصوّرات تبدو مشتركة بين المتكلّمين بها، معبّرة عن بديهيّات استقرّت في النفس حيث لا بداهة.

خذ لك منها ما يوصف به المثقّف، على سبيل إنكار الناس عليه ابتعاده عن الواقع واعتزاله الجمهور ورغبته عن الاختلاط به وربّما احتقاره له. فيكون هذا المثقّف على سبيل الاتّهام منعزلا في "برجه العاجيّ".

لسنا نبحث عن تاريخ هذه العبارة المتكلّسة المأخوذة ولا ريب من الفرنسيّة. فالذي يعنينا أنّها استقرّت عندنا واستخدمت على المعنى الذي ذكرناه.

بيد أنّنا حين نتأمّل دلالة العبارة نجدها تربط بين عمل المثقّف أو المبدع والمشتغل بأعمال فكريّة عموما وقيمتيْ السموّ والنفاسة مجتمعتين. فالبرجُ بامتداده العموديّ محيلٌ على دلالتيْ الرفعة والشموخ، والعاجُ بندرته ونُبل جوهره وغلاء ثمنه ملازمٌ لدلالات طيب الأصل وعظم القيمة. وتقدّم صورة البرج العاجيّ مزجا لطيفا بين المادّة النادرة النفيسة والجسم الممتدّ في الفضاء وهو مزج مولّد لمعنييْ الوفرة والرخاء، وكلاهما ممّا يحمد وجوده في الأعمال الإبداعيّة والفكريّة.

ففي أصل العبارة مديح وتقريظ سرعان ما استحال، من حيث ندري ولا ندري،  إلى قدح وذمّ لانعزال المفكّر والمبدع كي يجوّد المفاهيم التي يرى بها الواقع ويحلّل شواغل الناس، وإن ابتعد عنهم، أو يطوّر اللغة التي يقول بها الوجود وأسراره.

وفي هذا الانتقال، مهما تكن مبرّراته السياقيّة، ما يؤكّد ضربا من معاداة النخب. وهي لو ندري صنف من الشعبويّة التي ما انفكّت تنتشر وإن لم تنقطع يوما بما تتضمّنه من احتقار للعمل الفكريّ وللمميّزين والموهوبين المشتغلين بأمّهات القضايا وجوهريّها دون التزام يوميّ بلعبة السلطة وتفاصيلها العرضيّة.

نعم يحتاج العامل بالفكر إلى شيء من العزلة والانفراد بالنفس لأنّ الفكر يقوم على التأمّل والتخيّل حتّى يرى الواقع على وجه أفضل. ولا يعني الانغماس في حركة الناس بالضرورة قدرة أكبر أو شرطا لازما لمعرفة الواقع. فالواقع لو ندري هو ما يتشكّل في أذهاننا وليس ما نراه حولنا. والأدلّة على هذا في تاريخ العلم والمفاهيم التي نستعملها لفهم المجتمع والأفكار والسياسة والإيديولوجيّات أكثر من أن تحصى عددا.

إنّ البرج العاجيّ حين نتأمّل، ورغم المفارقة، هو الشرط الأوّل كي نكون واقعيّين جدّا.

وعلى هذا قياس الشعار الإخوانيّ "الإسلام هو الحلّ". إنّه شعار يعبّر عن جدال ضمنيّ موقوت تاريخيّا أكثر من تعبيره عن حقيقة تبدو في ضمائرنا نحن المسلمين بديهيّة.

نعم فليكن "الإسلام هو الحلّ"، لا نجادل في ذلك. ولكنّ هذا التعريف القائم على الاستغراق في كلا المبتدأ والخبر، يدعو إلى شيء من الريبة. فالشعار يحمل معه تصوّرات تقادمت ولا صلة لها بقضايا العصر بما يجعل العبارة حين ندقّق إمّا جوفاء خاوية وإمّا حاملة لنظرة خاطئة. فالإسلام المقصود في الشعار لا ينفصل عن الخلافة باعتبارها الشكل الوحيد الممكن لتدبير الشأن السياسيّ العامّ  ولا ينفصل عمّا يسمّى بتطبيق الشريعة في معنى منظومة الحدود التي تبلورت تاريخيّا إلى أن تماهت، رغم تاريخيّتها ومصدرها البشريّ، مع الدين كلّه.

ولكن ما يزعمه هذا الشعار وما يتضمّنه من قدرة على التعبئة، بسبب من بداهته الظاهرة، أكبر من المضمون الفعليّ الذي نجده فيه إذا تدبّرناه. فمن الرهانات التي ينبغي إثباتها عقليّا وواقعيّا تفكيك "الحلّ" إلى مكوّناته المتّصلة بشواغل الناس الحقيقيّة. فما الذي يحمله الإسلام من حلول لمشكلات البطالة والتنمية الاقتصاديّة والتطوير التكنولوجيّ والسكن اللاّئق والتعليم الجيّد والمساواة وعدم التفرقة وأشكال التنظيم التشاركيّ الديمقراطيّ وما إلى هذا من المسائل الواقعيّة؟

نعم تحتاج التيّارات السياسيّة، مهما تكن مرجعيّاتها، إلى شعارات تصنع الأمل وتجمع الناس ولكننا نعرف أنّه على قدر ما في الشعار من الآمال والوعود يكون السقوط والاندحار إذا لم يكن وراءها شيء يذكر.

ولئن كان للمثالين السابقين طابع تحقيريّ أو جداليّ بيّن فإنّ في عبارة "تجفيف المنابع" التي استخدمها الإسلاميّون في تونس في سياق محدّد صبغةً تجمع بين الهجوم وترسيخ معنى المظلوميّة. فقد وسموا مسعى مثقّف وحقوقيّ تونسي هو محمّد الشرفي لتنقية الكتب المدرسيّة من المسائل المخالفة لمنظومة حقوق الإنسان الكونيّة من قبيل العبوديّة والخلافة وضرب المرأة بأنّه من باب تجفيف منابع الإسلام في المدرسة التونسيّة. واتّهم بسبب ذلك بأنه وزير "علمانيّ" "فرنكوفونيّ متطرّف" "معاد للإسلام والإسلاميّين".

بيد أنّنا حين نتثبّت من هذه التهمة ومن العبارة التي أُريد بها التأكيد على أنّ محمّد الشرفيّ ومن يرى رأيه يستهزئ بالدين، نجد الأسئلة الأخطر تترك جانبا. فإذا صرفنا النظر عمّا في هذه العبارة من وقع رنّان فإنّ المنابع التي أراد الشرفي تجفيفها هي منابع الفكر المتطرّف المتحجّر غير العقلانيّ ومنابع الفكر غير التاريخيّ الذي تجاوزه الواقع والفكر المناقض لما استقرّ في حقوق الإنسان من قيم المساواة والعدل والحريات الفرديّة. فكيف يمكن في نظام جمهوريّ مثلا أن يُدرّس التلاميذ أنّ الخلافة هي الصيغة الوحيدة للحكم في الإسلام مثلا؟

هذا بعض ما في اللغة التي نستعملها من مكر وخداع وعليه القياس إذا خلّصنا كثيرا من العبارات ممّا يبدو فيها من بداهة واستخرجنا ما يقع وراءها من تعدّد صوتي وتضارب في وجهات النظر. ومن أسرار اللغة أنّها محايدة نقول بها الحقّ والباطل والفلسفة والشعر والعلم والواقع وما بين هذا كلّه نوجد نحن باعتقاداتنا وسوء فهمنا وتلاعبنا بالمعجم والتركيب بحسب مصالحنا المتناقضة. 

     

* روائيّ وأكاديميّ من وتونس

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.