}

كنت، وها أنذا، وسوف أكون

شكري المبخوت شكري المبخوت 18 يناير 2017
 

1

أجمل ما في الثورات، ثقافيّاً، لحظاتها المنفلتة المنسابة الهادرة. فالمآلات معروفة مسبقاً لمن لا أوهام لهم: يبتلع المتن القديمُ الهامشَ المنتفض قبل أن يحتلّ موقعه، وتحتوي المؤسّسة القائمة من وقفوا للحظات يطلبون المحال. لا يأس ولا تفاؤل. إنّنا نصف.

2

امتلأت الحيطان برسوم وتخطيطات وكتابات تملأ العين صراخاً واحتجاجاً. خرجت الصور والشعارات والخربشات المتقنة من حيطان الأحياء في الهامش، ومن الطاولات المدرسيّة، والأبواب المغلقة لتصبح أعمالا فنّيّة تزيّن الشوارع الرئيسيّة وحتّى جدران قصر الحكومة. استحالت الحيطان محامل للفنّ تتمازج فيها الألوان والأشكال التي لم يعهدها مستهلكو الفنون التشكيليّة في أروقة الثقافة الرسميّة.

3

تقول جماعة "أهل الكهف" بعد أن انتشرت في الشوارع واجتاحت الساحات العامّة: "إنّ مدّة صلوحيّة أعمال أهل الكهف لا تتجاوز الـ 24 ساعة. نرجو منكم تهذيبها أو تخريبها أو تعذيبها أو إعادة توضيبها. ملاحظة ثانية: أعمال أهل الكهف تأبى التعليب".

فنّ للعبور منذور للزوال يكتفي من هشاشته بالصرخة ولحظة ابتكاره. ينتهي حين يبدأ محاكيا مصير فراشة الثورة التي تتألّق ثم تنحدر إلى نحبها.

لا خلود للمتعة. إنّما هي لحظة مكثّفة تخلق جغرافيّة تواصلٍ خاطف كالبرق. مقترح جماليّ قابل للاستعمال العموميّ يستخدمه المخاطب المجهول كما يحلو له. أفليست الحياة نفسها احتمالات لا شيء ثابت فيها؟

لا تقصد هذه الرسوم، بألوانها الحارّة الفاقعة أو بلعبها على الأبيض والأسود، إلا إلى إحداث الصدمة في العين الكسولة لتتعلّم أبجديّات الشغف. بصر يطلب بصيرة ترحل في التسآل والتفكّر بحثا عن معنى ما لا ينتهي. يتجدّد مع كلّ لمحة.

على الجدران الباهتة لفرط العادة تضع ركاماً من المعاني، تشكّل جغرافيّة للخيال لكسر الرتيب في جغرافيّة المدينة ومعمارها البائس غير الإنسانيّ. تدريب للعين على العصيان وعدم الاطمئنان. تمرّد على الذات ونمطيّة المشهد اليوميّ المبذول في وقاحة وبلادة.

4

شابات وشبّان يحتلّون الأسواق والساحات العامّة. يباغتون الناس المهمومين بأشيائهم المكرورة المعتادة، بحركاتهم المنظّمة أو الفوضويّة في خارطة المدينة. كلّ المسالك عندهم واضحة. يأتي هؤلاء الشبّان ليشوّشوا الوضوح ويملأوا العاديّ المتعاود بإشراقات الأجساد الباحثة، في حركة متوتّرة محمومة، عن إيقاع جديد للجسد المدجّن يدوزن حياة جديدة محلوماً بها.

"فنّي رغماً عنّي": شبّان يعيدون صياغة الجسد الفرديّ وحركة الجسد الاجتماعيّ في الشارع. يرقصون يغنّون يستعرضون فنّهم في الشوارع والأسواق والأمكنة العامّة. حركات مسرحيّة مع المارّة. كيف نجعل الحياة مسرحاً جميلاً مبهجاً وندمج المسرح وفنونه في الحياة اليوميّة؟ هذا سؤالهم الحارق. لا شيء من أكسسوارات المسرح ولوازمه المصطنعة. تكفيهم مادّة الجسد وأضواء الشارع والركح العموميّ. لا تمثيل ولا تخييل ولا محاكاة لتبليغ "رسالة" إلى متفرّج بليد جالس في مقعده الوثير. على المسرح أن يكفّ عن بناء المصطنع والزائف وعن التطهير أو التعبير أو التأثير عسى أن يكون جزءاً من الحياة، إضافةً جماليّةً لما هو موجود يحوّله ويغيّره ليكون واقعاً مبهجاً. دور المسرح هو أن يتواصل الناس، أن ينشئوا صلات حميميّة، أن يشاركوا في الحفل اليوميّ والاحتفاء بالحياة في كلّ آن.

لا يحبّون مجتمع المشهد الذي يفصل الوعي عن الجسد ويسلب المرء إرادته ولكنّهم يحوّلون وجودهم إلى مشهد يشارك فيه الجميع. فهم الديكور والنصّ والممثّلون. كلّ ذلك من أجل كسر الرتابة ومنع التثاؤب وقتل الملل. فالأمل والجمال عمادان للثورة.

5

استحالت اللقاءات في الشوارع، للتظاهر مثلاً، جوقات للمرح والفرح. يندمج الغرباء، تلتقي أصواتهم، تحتك اجسادهم، تتلاقى أصواتهم الصاعدة من أعماق الرغبات المكبوتة والمخاوف الجاثمة. يقولون حلمهم في كورس جماعيّ غير مخطّط له. إنّها عفويّة الإنسان في اللحظات المشرقة الفاتنة.

6

صور نادرة تتراءى لنا اليوم من بعيد. صور تخرق المالوف وتعدل عن الطرق المسطورة حملتها سيول الانتشاء بالحرّيّة لتجرف نباتات اليوميّ الذابلة وتفتح أحيازا للآتي البديع.

إنّ ثورة لا ترقص ولا تغنّي ولا تحرّر الجسد المتوجّع وهي تحتج وتحلم لا تعدو أن تكون مسخرة.

هكذا كانت تلك اللحظات الفاتنة قبل أن يسرقها رجال مطافئ الثورات والأحلام الكبرى.

7

انتهي كلّ شيء تقريبا. عاد أهل الكهف إلى كهفهم، رغماً عنّا وعن مساحة الابتداع التي احتلوها. عادت الحياة إلى إيقاعها الرتيب. فعمر الثورات كعمر الزهور.

للناس أن يغنّوا مع الشيخ إمام "فرحانين... فرحانين... كلّ ثورة واحنا ديما فرحانين"، ولكنّ الديناصورات عادوا وخرجوا من بيضة الفساد والجشع ونزعات الهيمنة. 

8

كتبت روزا لوكسمبورغ يوما من سنة 1919 بعد أن سُحق "أسبوع سبرتاكوس" في ألمانيا قائلة بتفاؤل الثوريّين: "إنّ "نظامكم" بني على الرمال. فالثورة، ابتداء من يوم غد، ستقوم من جديد هادرة. معلنة بصوت مجلجل كي يبعث فيكم الرعب والفزع: كنت وها أنذا وسوف أكون".

للثورات ذاكرة. ولحلم الإنسان تاريخ سرّيّ لا تظهر بعض سطوره إلا في مثل تلك اللحظات الفاتنة. 

(لوحة للفنان مروان نصار)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.