}

جاك لندن في "لابلياد" بعد قرن من رحيله

نجيب مبارك 23 نوفمبر 2016

في يوم (22 نوفمبر/ تشرين الثاني)، قبل مئة عام، رحل عن عالمنا الكاتب الأميركي جاك لندن، وهو في سنّ الأربعين. أغلبُ كُتّاب سيرته يتّفقون على أن سبب رحيله المبكر يعود إلى الإجهاد النفسي وإدمان الكحول، وهناك أيضاً من يُرجّح فرضية الانتحار. رحلَ منهاراً ومثقلاً بالديون في مزرعته بكاليفورنيا ودُفن هناك، بعد حياة قصيرة لكنَها حافلة بالتسكّع والمخاطر والمغامرات في البرّ والبحر، غنيّة بالإبداع الأدبي المتنوّع والغزير، وهو إبداعٌ ما زال شاهداً إلى اليوم على رسوخ اسمه في تاريخ الأدب الأميركي والعالمي.

من المؤكّد أنّ جاك لندن، ولفترة طويلة نسبياً، اعتبُر كاتباً شعبياً من الطراز الأول، أو مؤلّفَ قصصٍ للشباب في أحسن الأحوال. تُرجمت جلّ أعماله إلى كلّ لغات العالم الحيّة، ولقيَت نجاحاً منقطعَ النظير لما فيها من تأمّلات أصيلة عن علاقة الإنسان بالطبيعة، الإنسان بالحيوان، الحيوان بالحيوان، والإنسان في مواجهة ذاته، وكذا لما تزخر به من مغامرات بديعة ومُشوّقة، تجري أحداثها على ثلوج الأدغال الموحشة والبراري الموحلة، في البحار البعيدة كما بين أزقّة المدن الفقيرة. لكن، سرعان ما أُعيد النّظر في هذا التّقييم غير المُنصِف، إذ لم تمرّ سوى عقود قليلة حتّى انتبه النقاد الأميركيون، ومن بعدهم الأوروبيون منذ خمسينيات القرن الماضي، إلى القيمة الأدبية والفنّية الكبيرة لروايات وقصص جاك لندن، وهو ما تكرّس نقدياً وأكاديمياً هذه السنة على الخصوص، بمناسبة إحياء الذكرى المئوية لوفاته، لعلّ آخرها وأبرزها مبادرة اختيار أعماله ضمن سلسلة مكتبة "لابلياد" الفرنسية العريقة، التي دأبت على الاحتفاء بعظماء الكُتّاب والخالدين منهم في التاريخ، وقد صدرت هذه الأعمال فعلاً في 13 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وهي من اختيار وتقديم فيليب ياورسكي، الناقد وأستاذ الأدب الأميركي بجامعة باريس-ديدرو.

وُلد هذا الكاتب العصامي يوم 12 يناير من سنة 1876، في سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا، من أبٍ يعمل عرّافاً متجوّلاً وأم تمارس الروحانيات. قضى طفولته فقيراً متشرّداً في الشوارع، متنقّلاً بين عددٍ من المهن الصغيرة للحصول على قوت يومه. اشتغل في مصنع معلّبات وهو لم يبلغ الرابعة عشرة، ثمّ كنّاساً للحدائق العامة، حمّالاً وعاملاً في تحميل وتفريغ السفن، وفي فترة لاحقة، جامعَ محارٍ وصائدَ فقمات في سيبيريا واليابان، مراسلاً حربياً في مناطق كثيرة من العالم، فلّاحاً ثمّ صاحبَ مزرعة وبحّاراً قبل أن يمتلك مركباً خاصّاً ويقرّر، رفقة زوجته وبعض الأصدقاء، الإبحار في جولة عبر العالم لم تكتمل وتوقّفت عند أستراليا.


طوال سعيه المحمُوم من أجل العيش، رغم الصعوبات والمخاطر التي واجهها، كان جاك لندن يُعدّ نفسه جدّياً ليصبح كاتباً كبيراً. تسجّل عام 1896 لمتابعة دروس معمقة في جامعة ألاميدا، حيث أنهى البرنامج الدراسي، الذي عادةً يتطلّب سنتين، في أربعة أشهر فقط، ثمّ سرعان ما غادر الجامعة لضيق ذات اليد. انخرط مبكراً في النضال الاشتراكي، وبسببه قضى شهراً في السجن. وحين بدأت حُمّى البحث عن الذهب تجتاح البلاد، في يوليو 1897، غادر بدوره إلى أقصى الشمال في ظروف قاسية جدّاً. هناك، تقاسم مع المغامرين حياتهم البئيسة، هؤلاء الذين تخلّوا عن كل شيء، حتى إنسانيتهم، من أجل الفوز بالذهب والثروة. كانت هذه التجربة الفاشلة، التي لم يُحصّل منها شيئاً لدى عودته مريضاً ومفلساً إلى سان فرانسيسكو، هي الدافع الأكبر لكتابة ما خزّنته ذاكرته من عشرات الحكايات التي ستتحوّل في ما بعد إلى قصص وروايات.

البداية، إذاً، كانت من هذا الطريق نحو عمق "الصمت الأبيض"، بحثاً عن الذهب. هذا الطريق الهائل الذي يغطيه الثلج كان أيضاً بحثاً عن الذات لمواجهة ضعفها اللّانهائي. يقول: "في كلوندايك، اكتشفتُ نفسي حقاً. هناك، لا أحد يتكلّم. الكلّ يفكر، يُنمّي بداخله رؤية حقيقية للأشياء، وكانت تلك حالتي". صار هذا الفضاء بالنسبة إليه مختبراً لمراقبة صدام العواطف وملاحظة السلوكات البشرية، فهناك اكتشف أسوأ وأفضل ما في الإنسان الحديث الّذي تخلّى عن قشرة الحضارة المصطنعة. لقد اختار جاك لندن معسكره: أن يكون شاهداً نزيهاً على جشع وحماقة "ابن الذئب" (الرجال البيض) والموت البطيء لـ"أطفال البرد" (الهنود المهدّدون بالانقراض)، وقد احتفظ من كلّ ذلك برؤية تشاؤمية جدّاً عن مآل الحداثة.
كتب جاك لندن قصصاً عاشَها فعلاً وليست من بنات خياله، وهذا سرّ الافتتان بها حتى الآن. نقلَ تجاربه الشخصية وما خبره من عنف وقسوة في البريّة بين الذئاب، ومن سطوة الرأسماليين الجشعين في مدنٍ مرّ بها مع أشباهه من المغامرين الفقراء والمهمّشين. يقول عن التزامه بالفكر الاشتراكي، متأثّراً بقراءة ماركس: "أنا ابنُ الطبقة العاملة. في سن الثامنة عشرة، وجدتُ نفسي في الهاوية أكثر من السابق. كنتُ في قاع المجتمع، في الأغوار العميقة للبؤس الّتي ليس من المناسب واللّائق الكلام عنها. كنتُ في حفرة، في هاوية، في بالوعة الجنس البشري، في فوضى أو مقبرة جماعية لحضارتنا". مثل هذه الأفكار السياسية، المناهضة لليبرالية والمناصرة لقضايا طبقة البروليتاريا، ظهرت في الكثير من أعماله أهمّها "شعب الهاوية"، الذي استلهمه من معاينة بؤس الأحياء الفقيرة بمدينة لندن خلال زيارته لإنكلترا. 



كان جاك لندن غزيرَ الإنتاج، يكتبُ ألفَ كلمة يومياً بصرامة كبيرة ولا يُصحّح مسوّداته إلّا نادراً جدّاً. ترك أزيد من خمسين كتاباً في مختلف الأجناس الأدبية، ولا تضمّ مختارات مكتبة "لابلياد" سوى القليل، موزّعاً على مجلّدين ضخمين. لكن هذا القليل يسمح بإعادة اكتشاف وقراءة ما خطّه قلم هذا الكاتب المغامر والمتفرّد: في الرواية ("ذئب البحار"، "الناب الأبيض"، العقب الحديدية"، "مارتن إيدن")، في القصة الطويلة ("الطريق")، في الريبورتاج ("شعب الهاوية")، في السيرة الذاتية ("جون بارليكورن").

فضلاً عن الروايات، تقترح "لابلياد" عدداً كبيراً من القصص القصيرة، وهو الجنس الأدبي الذي منح شهرة لجاك لندن على غرار معاصريه من الكُتّاب الأميركيين، يصل إلى 47 قصة، وهي تمثّل في الواقع رُبع القصص القصيرة الصادرة في الفترة ما بين 1899 و1916. كما نعثر، أخيراً، على امتداد صفحات المجلّدين (1536 صفحة في المجلد الأول، و1616 في الثاني)، على 184 من الصور والرسومات، تلك التي زيّنت ورافقت نصوص الطبعات الأصلية لأعمال جاك لندن.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.