}

الخطوات الأولى خارج الكهف

فرج بيرقدار فرج بيرقدار 10 فبراير 2020
يوميات الخطوات الأولى خارج الكهف
لوحة للرسام الإيطالي بستويا سانتا ترينيتا (1455-1460) (Getty)
خرجت من السجن في نهاية عام 2000. في عام 2001 استطاعت مؤسسة هاينريش بول الألمانية، عبر الحكومة، إحراج النظام السوري أو إقناعه بمنحي جواز سفر، وموافقة على مغادرة سورية لمرة واحدة.

كان ذلك بعد تدمير برجَي مركز التجارة العالمي في نيويورك، الأمر الذي جعل السفارة الألمانية تتردّد في إعطائي الفيزا المطلوبة.
تطوَّع صديقي الهولندي رونالد بوس لحلّ المشكلة، فسافر من أمستردام إلى دمشق.
أخذني رونالد معه لمقابلة السفير الهولندي في دمشق، ثم السفير الألماني، وهكذا حصلت على الفيزا.
هذه أول مرة في حياتي تتاح لي فيها الفرصة للسفر إلى ألمانيا أو أوروبا الغربية.
ندمت لأني لم أشارك في دورات تعلُّم اللغة الإنكليزية في السجن. كان قراري هو: إذا حكمتني محكمة أمن الدولة أقلّ من خمسة عشر عاماً، فسأتعلّم الإنكليزية، وإلّا فسأبقى على ديدني في مكاسرة لغتي العربية التي صبَّها أجدادنا القدماء في قوالبهم ثم كسروا القوالب.
قبْلَ توجّهي مع رونالد إلى المطار أبلغته أني أرغب في شراء كتاب لتعلّم الإنكليزية المبسَّطة، لعلّي أسترجع بعضاً من إنكليزيتي التي لم تكن سيئة أيام الجامعة.
أبلغني رونالد أن مدة رحلتنا حوالي خمس ساعات. قلت: لا بأس فذلك وقت كاف لأقرأ الكتاب.
هبطت الطائرة في ميونيخ، فقال رونالد إن وقتنا المتبقّي من ميونيخ إلى أمستردام ليس أكثر من خمس وأربعين دقيقة. فجأة دخلت امرأة إلى الطائرة ونادت باسمي. ذهب إليها رونالد ثم عاد ليقول لي: أرِني جواز سفرك. المرأة تقول إن الفيزا التي معك ليست فيزا تشنغن. إنها إلى ألمانيا فقط.
بعد أن تأكد رونالد من حقيقة ما قالته المرأة قال لي إنه بعد ساعة سيتصل بمؤسسة هاينريش بول ويخبرهم بتفاصيل ما حدث.

-         لا تقلق فرج.. أنا متأكّد أنّ إنكليزيتك كافية لتتدبّر أمورك.

 فرج بيرقدار 

















المرأة شقراء، وملابسها توحي أنها من سلك الشرطة أو ضابط أمن. ملامح وجهها لطيفة منمنمة وصارمة في آن. حين بلغنا قاعة الواصلين تركتني متمنية لي حظاً سعيداً.
السجن على بؤسه ولعنات تفاصيله إلا أنه كان تحت سيطرتي، أعني معرفتي، وبالتالي كنت مطمئنَّاً فيه. الآن كل شيء عائم ومقلِق ومجهول.
أعرف أن المكان الذي سأقيم فيه كضيف هو بيت الكاتب الألماني هاينريش بول الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1972. البيت في منطقة قريبة من مدينة "كولونيا".
إذاً عليّ الخروج من المطار والسؤال عن محطة القطارات الذاهبة إلى كولونيا، وهناك أتصل بأرقام الهواتف التي أرسلوها لي.
كان ملفتاً للانتباه أن هناك لافتات كثيرة بالعربية مكتوب عليها أن لديهم مترجمين من العربية إلى الألمانية والعكس. تلك واحدة من لعنات تنظيم القاعدة وعملية تدمير برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك.
كنت أمشي كالمسرنم وأنا أسأل عن سبيل الخروج من المطار. قبل وصولي إلى المخرج بخطوات، سمعت اسمي يتردد عبر مكبرات الصوت في المطار. عدت أدراجي وأنا أسأل ماذا أفعل وقد سمعت اسمي في مكبرات الصوت. إحداهن قالت لي: إذهب إلى الاستعلامات.
قلتُ: وأين هي؟
قالت: إنها في الطابق العلوي. اتبع اتجاه الإشارات المرسوم عليها حرف I، الحرف الأول من .Information
وصلت إلى أحد مراكز الاستعلامات وأبلغتهم بما سمعتُ، فبحثوا في ما هو أمامهم وقالوا أن لا شيء بخصوصي.
لعنت اللحظة التي وافقت فيها على قبول الدعوة. واحد مثلي أسهل عليه أن يعود إلى أهل الكهف من أن يأتي إلى أوروبا. ذهبت إلى موظفة أخرى في الاستعلامات، موظفة تصلح أن تكون أختاً أو ابنةً، توسّمت في ملامحها طيبة قد تسعفني.
بعد قليل جاءت المرأة التي أنزلتني من الطائرة، وأخذتني إلى مكتب فيه شخص استقبلني بحفاوة وبلهجة شامية. قال لي إنه من دمشق ويحمل نفس كنيتي.
أهااااا.. الدنيا صغيرة إذاً.
قام الرجل بالترجمة في ما بيني وبين المرأة، وفهمت أن القصة وما فيها أن صديقي رونالد وصل إلى أمستردام، واتصل بالمعنيين في مؤسسة هاينريش بول وأبلغهم بما حدث، فحجزوا لي على الخطوط البريطانية من ميونيخ إلى كولونيا. أوصلتني المرأة، التي أنزلتني من الطائرة القادمة من دمشق، إلى البوابة التي ستوصلني من ميونيخ إلى كولونيا.
في مطار كولونيا رأيت ركاب الطائرة يسيرون بسرعة فتبعتهم. لم أعرف أنها رحلة طيران داخلية، وأن أغلب المسافرين ليس معه سوى حقيبه صغيرة. تجاوزت قاعة الحقائب وخرجت من باب قاعة الاستقبال. هناك تذكّرت أني نسيت حقائبي.
حاولت العودة إلى قاعة الحقائب، غير أن الأبواب كانت تفتح للخارجين من القاعة وليس للعائدين إليها.
ذهبت إلى إحدى الموظفات وشرحت لها أمري، فقالت: لا تقلق. الآن أتصل بعنصر أمن ليساعدك.
شعرت بما يشبه أصداء ارتجاجات بعيدة في داخلي، ثم ما يشبه خفقان طائر مهيض الجناحين.

-         عنصر أمن؟!

يا إلهي.. أي لعنة هذه التي تلاحقني أينما ذهبت؟!

وهنت رُكبتاي، وكان قلبي يدقّ على نحو لم أعهده إلا في حالات الاعتقال والتحقيق.

-         قلتُ لكَ لا تقلق.

يبدو أن الموظفة انتبهت إلى تغيّر ملامحي وأرادت تطميني.

قلت لنفسي أنني في ألمانيا، ولا يمكن أن يكون عنصر الأمن كما هو في فروع المخابرات السورية. ليس لأن ألمانيا أفضل، بل لأنه يصعب أن يكون في هذا العالم مخابرات أسوأ من مخابرات النظام السوري.
بعد قليل جاء شابّ وسيم مبتسم، يمشي كأنه يرقص، وفي يده شيء يشبه السلسال يلوِّح به.
أعطى أذنه قليلاً إلى الموظفة، ثم غمز لي بعينه وهو يميل رأسه أن اتبعني، فتبعته. كان يفتح الأبواب ببطاقة لا بمفاتيح. تلك كانت أول مرة أرى فيها هذه التكنولوجيا الغرائبية.
أوصلني إلى قاعة الحقائب، وسألني إن كانت الحقائب المركونة في أحد أطراف القاعة لي. لقد حلَّ لي مشكلتي بمنتهى اليسر واللطف.
وأنا خارج من المطار، أحدث نفسي في ما ينبغي عليّ فعله في الخطوة اللاحقة، شاهدتُ امرأتين تتمشيان. بعد أن تجاوزتُهما بأمتار سمعت إحداهما تناديني باسمي.
أي ملاك منقِذ هذا الصوت؟
التفتُّ ملهوفاً لأجد أمامي سيغرون المسؤولة عن ضيوف المؤسسة، حسب تعريفها بنفسها، ومعها كارين كلارك من نادي القلم الألماني.
حينها فقط شعرتُ أني يمكن أن أُنزل عن كاهلي أحمالاً ثقيلة طال أمدها، وأني يمكن أن أتعافى بما يكفي للقول إنّ خطواتي الأولى خارج الكهف قد بدأت.    

مقالات اخرى للكاتب

شعر
31 يوليه 2020
آراء
3 مايو 2020

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.