أما اليوم، فقد انقلبت الأدوار، وأصبح هو الطريدة، وهي المفترس الخطير، لقد باتت فلاحة قوية الجسد، عظيمة الأوراك والعجز، وتنتظر منه في الليل الشيء الكثير. وفي الوقت الذي يتوقف فيه عن مواصلة الفعل، ترغب هي أن يستمر، وتظل منبطحة مثل جذع عملاق، ولا تكف عن الالتحام بجسده المتعب، وتحاول مراراً أن تخلق من ضعفه قوة، فتثيره بوسائل شتى حتى تظن أن جبلاً سيتحرك لو أثير على ذلك النحو. ولكن تذهب جهودها سدى، وما يرعبه
كان منهاراً، ويشعر بألم مبرح في رأسه وروحه، وأراد أن يسمع شيئاً منها، أن تثور وتنفجر فوق رأسه مثل قنبلة، أن تتحدث عن اليوم المشؤوم الذي تزوجها به، وذلك خير من الحروب الباردة المسعورة التي لا طرف لها، وقال بتحفظ متحاشياً النظر في عينيها:
ـ يا لها من ليلة عبوس، لم أذق فيها طعم النوم..
ـ تبدو فرحاناً في نفسك، إنك كالدجاج التي تحب إثارة الرماد على رأسها..
ـ ماذا جرى لك في المساء؟ هل جن جنونك يا امرأة؟ تكلمي...
ـ لا يدخل الملعب إلا لاعب ماهر.. وما يتزوج بنات الناس إلا شخص كفؤ..
ـ ماذا؟ كيف كنت في ما مضى؟ فحل وأي فحل، لقد كنتِ في بكاء دائم بسبب رجولتي..
ـ عندك حق في ذلك.. لم تجعلني في يوم من الأيام أضحك.. خير لك أن ترحل في هذه اللحظة، حتى لا يسمعنا الجيران..
وخرج فرحاً بنجاته، لقد ربح الرهان، لأنه استطاع أن يثيرها، حيث بدت مجنونة حقاً، وكان من المتوقع أن تحذفه بفردة حذاء، أو تضربه بأي شيء قد تطاله يدها، وفي طريقه وجد طفلاً من أبناء الجيران يهم بالذهاب إلى المدرسة، فقال مازحاً:
ـ حاذر بني أن تتزوج بفتاة أصغر منك بيوم واحد..
ولكنه في صميمه لم يكن سعيداً، أو راضياً عن نفسه، أو عن أي شيء حوله، ولكنه ما زال يحاول كبت مشاعره الحقيقية كما يفعل دائماً، وفي المنزل الصغير المجاور لمنزله رأى الجارة الشابة محاسن تنشر مناشف الاستحمام على السطح، وتظهر منتشية بادية الأسارير، إلى جانبها زوجها خالد الذي يبدو في مثل عمرها، تأملهما بشيء من الحسد، كانا يتناجيان ويختلقان شجاراً كاذباً، ثم انطلقا يجريان وراء بعضهما في ضحك عارم، بينما مالت محاسن إلى الأمام بغنج فأمسكها من الخلف، ورفعها للأعلى فغدت تمد ذراعيها في الهواء مثل طائر يرفرف ويغرد في الوقت نفسه، وتصيح بخفر عروس:
ـ ابتعد عني يا مجنون.. ابتعد...
قال لنفسه بغيظ: "كيف لو رأت شفيقة هذا المشهد؟ ستقتلني على السرير..".
ووجد نفسه يصيح بلا شعور:
ـ هيه.. خالد.. خالد. ماذا تفعل بني؟
وضع الشاب امرأته جانباً، ثم ضربها على ردفها، وصاح ولم تختف أمارات مرحه:
ـ هذه العفريتة تجعلني أجن.. إنها تغويني وتسلبني رشادي..
ـ يمكنك أن تقطعها إرباً في الأسفل بعيداً عن عيون المتطفلين، أنت تعرف أننا لا نفعل ذلك في العلن أو السر.. أنتم جيل مجنون لا تتمسكون بالتقاليد..
ـ إننا نتشاجر إن كان هذا يرضيك..
ـ يا لكما من جارين خبيثين..
ومضى يشتم الحياة المليئة بالفضائح. هل يسمعان كل ما يدو بينهما من شجارات؟ للجدران آذان كما يقال، وليس من العسير سماع صوت شفيقة المدوي. يا ترى ماذا يعرفان عن السر الذي على الأرجح لم يعد سراً؟ إنهما زوجان شابان حديثا الزواج، ويظن أنهما يفعلان ذلك من أجل إغاظته، ومنذ حلا إلى جواره لا يمر يوم دون أن يسمع أو يرى شيئاً ينم عن علاقتهما الوطيدة، وعلى نحو مفاجئ خطر في ذهنه إمام المسجد، وهو رجل يكبره بخمسة أعوام، وعلى الرغم من ذلك يبدو أصغر منه في السن، ما زالت سوالفه سوداء وجسده طري صحيح، في عصمته ثلاث نساء، والأخيرة فتاة صغيرة لم تبلغ الحلم، وقد تكون في عمر شفيقة يوم اقترن بها، ومع هذا لم يسمع ما يشي إلى خلافات في ذلك المنزل المكتظ بالنساء والأطفال، أيكون هو الوحيد الذي يعاني من داء العجز؟ وطالما يسمع الإمام يقول إنه يخلو في كل ليلة بواحدة،
وكان ينبغي أن تأخذ بعض الدروس عن واجبات المرأة المسلمة، وليس هناك من يقدر على ترويضها سوى مولانا الإمام.. وابتهجت ملامح مرشد بنور الحقيقة الوضّاحة، ومال في طريقه باتجاه منزل إمام المسجد، وهو مغتاظ ومضطرب، وليس في ذهنه شيء محدد، وانتظر حتى أذن له ودخل. كانت الأستار السوداء تعتم نوافذ الدار، وكلمة "الله.. الله" تخرج كانفجار من فم رب المنزل لتحذير النساء من وجود زائر، ورأى انفضاض جمع الحريم وفرارهن، وكن يحملن المصاحف وهن مغلفات بالجلابيب السوداء في عز الصيف، واستغرب أن يكون مخيفاً إلى ذلك الحد، وسرَّه أن يبدو رجلاً تفر منه النساء؟ واستقبله الإمام بما يليق بشخص يعرفه، وقال بوقار:
ـ تبدو شاحباً يا مرشد.. عافاك الله..
ـ أعاني مؤخراً من السهر، أرجو أن يكون حديثنا صريحاً لا يسمع به أحد..
وصاح الإمام بصوت واثق لا مجال فيه للتهاون:
ـ لا أحد يقترب من مجلسنا رحمكن الله..
وهمد كل شيء.. وبعد وهلة تردد وصمت..
ـ لا أدري من أين أبدأ.. لديك ثلاث نساء... هل تطمع بالمزيد؟
شهق الإمام بفعل المفاجأة، ثم قال ضاحكاً:
ـ ومن هذا المجنون الذي يشبع من النساء؟..
ثم صمت حينما شعر أنه سيخرج عن وقاره المألوف، وقال مرشد:
ـ صف لي نساء الجنة...
ـ أعفني من ذلك، أتوسل إليك.. إنهن فوق الوصف.. يكفي أن تظهر إحداهن على الدنيا،
فتحترق الأرض بفعل نور جبينها.. ندعو الله أن يمتعنا بالحوريات في الدنيا والآخرة..
واستشاط مرشد غضباً وغيرة، وصاح:
ـ ولكني لا أريد أي حورية.. لست مثلك مخادعاً يظن نفسه فحلاً غبياً.. يكفي ما أعانيه من شفيقة.. كنت أود أن تمنحها بعض المواعظ التي تنزع من جسدها النزوات الشيطانية.. ولكنك مغفل كبير تصدق أنك بالفعل تشبع ثلاث نساء..انظر إلى الشيب الذي في رأسك.. لم يعد عصفورك يغرد..
انتفض الإمام غاضباً وحاول أن يكبح انفعاله:
ـ مرشد.. اتق الله واخفض صوتك.. ما هذا الكلام الفاضح؟ الحريم سوف تسمع.
ـ أنتم أحجار.. أنتم واهمون.. أنتم مرضى وتجدون ما تكذبون به على أنفسكم.. اتركوني وشأني...
ـ مهلاً.. انتظر عافاك الله.. ماذا جرى لك؟
وصعد مرشد نحو التل، ومكث هناك ليتفكر في كل ما حدث له.. كان محيطه خالياً هادئاً، وانتبه في خضم استرخائه إلى جمال العصافير، ورآها تتقافز وتزقزق من حوله بحرية وفرح، ولمح عصفورين يتسافدان على ربوة قريبة، فقال بحنق: "حتى العصافير تناكدني"...
وخطرت في رأسه فكرة لم يفكر فيها مطلقاً، لماذا لا يفك أسر شفيقة؟ إن كان يحب أن تظل في عصمته، ينبغي أن يفعل ذلك.. لقد شاخ ولم يعد لوجوده أي معنى، ولعل هناك عصفوراً آخر مغرداً يحط في عشها.. أما هو فقد استنفد كامل طاقته، ولم يعد يستطيع أن يحتمل آلام العيش إلى جوارها.. ونظر حوله متفحصاً، حيث لا يوجد آدمي ينظر إليه، إنه وحيد مثل طائر فارقه السرب، وليس بوسع أحد أن يسخر منه أو يغيظه بعد اليوم.. وأغمض عينيه مفتوناً بفكرة التحليق، واقترب ببطء نحو الهاوية فارداً ذراعيه..
*كاتب وروائي يمني.