}

قصة وتحية وداع لرسمي أبو علي..مبدع كرمته المقاهي

محمود الريماوي محمود الريماوي 11 يناير 2020
قص قصة وتحية وداع لرسمي أبو علي..مبدع كرمته المقاهي
"تحية متجددة لسارد وشاعر إنسان ابتعد عن "وليمة الحياة""
رحل رسمي أبو علي عن 83 عاماً بالإيقاع نفسه الذي أمضى حياته فيه: بهدوء وبطء، بغير بهرجة أو ميلودراما، بمرح دائم ممزوج بأسى شفيف مترفّع، وباندهاش دائم من لعبة الحياة والموت التي يتورط فيها المرء رغما عنه، وقد ظل يداوم على الحضور في الفيسبوك ما وسعه ذلك وحتى أيامه الأخيرة آملاً أن يحالفه الحظ بالبقاء حتى أبريل/نيسان المقبل وعندها سوف " ينفد" (ينجو).

ولئن عُرف بتواضعه الجم فإن ذلك لم يسلب منه اعتداده بنفسه وموهبته، وهو ما لا يملك المبدع التخلي عنه، ليس من أجل توازن نفسي ضروري فحسب، بل كي يحتفظ أيضاً بطاقته الإبداعية ويتمكن من إطلاقها. فبغير الثقة الأكيدة بالذات المبدعة لن يكون بالوسع الوفاء لهذه الذات وتجاوزها. على أن كسلاً ذا قماشة فلسفية أصاب صاحب "قط مقصوص الشاربين اسمه ريّس" في العقدين الأخيرين من حياته، كسل مع ازورار عن المجتمع الثقافي، الذي يتدافع أعضاؤه نحو الأضواء والاستعراضية، علاوة على ضيقه الشديد من مساومات أصحاب دور النشر، فكان أن أقلع عن الكتابة بعد صدور كتابه الأخير "ينزع المسامير ويترجل ضاحكا" كي يضمن عدم الاحتياج إلى ناشر، ولأن "الشغلة مش جايبة رأسمالها" على حد قوله!. وعاد إلى سيرته الأولى ربما في مطلع شبابه بملازمة المقهى. مقهى شرقي يعِجّ بدخان السجائر والأراجيل، ويضج بالأصوات الذكورية الخشنة، ويتجاور فيه بسطاء الناس ويتعارفون وينخرطون بحماسة في لعب الورق أو الطاولة (طاولة الزهر ــ النرد). وقد انغمس رسمي في اللعب وبات مدمنا عليه متفادياً ضروباً أخرى من الإدمان يقع مثقفون في حبائلها. وبقليل من التمعن وبمضاهاة إبداعه بنمط حياته ويومياته، فقد كان رسمي يجد في المقهى ملجأ ميسوراً وآمناً للتفلّت من ضغط نزعة عدمية، تتلبسه آناء الليل وأطراف النهار، فيهرب من ذات نفسه الأمّارة بالقلق، إلى صخب المقهى، ويصادف في الرواد الغرباء ألفة يفتقدها ربما لدى كثيرين ممن عرفهم ويعرفونه.
ومع ذلك كان ينجح في التسلل من المقهى ساعة مساء لمرة أو مرتين في الأسبوع إلى مناسبة ثقافية ما في المركز الثقافي الملكي أو دارة الفنون أو رابطة الكتاب أو سواها. وبهذا لم ينقطع عن الحياة الثقافية رغم مواظبته على ارتياد المقهى (الأوبرج، قبل أن ينتقل إلى مقهى الكوكب في وسط العاصمة عمّان).
بعد أن أقعده المرض طيلة النصف الثاني من العام الماضي 2019، لم يفتقد شيئا مثلما اشتاق للمقهى وأجوائه. ومقاهي وسط عمان تقع عادة على الطابق الثاني (أو الأول فوق الطابق الأرضي) مما يتطلب صعود الأدراج. وبمعاونة أهله الأقربين، لا بد، أمكنه الوصول إلى المقهى ذات يوم في خريف العام المنصرم. ويبدو أنه ذهب في غير الأوقات المعتادة لذهابه، فلم يجد أحدا من رفاق اللعب وجلس وحيدا. وسأل عن أحد الرواد الذي كان يداوم على المجيء والجلوس منفردا، فقيل له إن يد المنون قد اختطفته، فاغتم غمّا شديدا. ورأى في ذلك نذير شؤم. وللأسف لم أعثر في صفحة رسمي على صورته الأخيرة في المقهى التي كان قد وضعها في حينه. بينما الصورة المرفقة هنا هي لتكريم مقهى الأوبرج له. لقد كرّمه مقهى بأكثر وأفضل مما أنصفته هيئات معنية بالثقافة والإبداع.
القصة التالية لكاتب هذه الكلمات، تستوحي يوميات رسمي في المقهى، ويحمل نشرها بمناسبة رحيله، بعد أن نُشرت سابقا على أضيق نطاق إلكتروني، تحية متجددة لهذا السارد والشاعر الإنسان الذي ابتعد مبكرا عن "وليمة الحياة"، إلى ركن صغير في مقهى يستمتع فيه بأبسط مظاهر الأنس وجولات الفوز والخسارة.

  تكريم مقهى الأوبرج للمبدع الراحل رسمي أبو علي.. كرّمه مقهى بأكثر وأفضل مما أنصفته هيئات معنية بالثقافة والإبداع 


















*****

من يموت أولاً

بتواضع جم وصراحة غير مألوفة لا يجد رسمي ما يميزه عن زملائه اللاعبين الثلاثة، سوى أنه أكثر حذاقة من بعضهم بدليل النتائج التي تنتهي إليها جولات لعب الورق، وسوى ذلك فهم زملاء طيبون، ولاعبون محترفون يطيب له اللعب معهم دون سواهم، وبصورة شبه يومية في المقهى الكائن في قلب عمان القديمة بين السادسة مساء والعاشرة ليلاً، وعلى الطاولة البلاستيكية نفسها التي تتوسط المقهى الفسيح مقابل المدخل.
ليسوا أصدقاء طفولة، ولا زملاء دراسة أو وظيفة معه، بل هم ببساطة رفاق المقهى وأصدقاء لعب الورق، وليس معلوماً كيف تعرف إليهم، ولو سئل هذا السؤال لانفجر ضاحكاً، وقال: هل تراني تعرفت على عمرو دياب أو بيل غيتس أو خافيير سولانا، حتى يملأك الفضول لمعرفة كيف تعرفت إليهم؟ الشغلة (المسألة) رأسمالها توجيه سؤال إليهم مثل: بِدكم (تريدون) لاعبا رابعا؟ فيجيبون بالإيجاب وأنضم إليهم، وتتكرر المواعيد ويتحول الأمر إلى عادة، ثم إلى ما يشبه الصداقة .
أجل إلى ما يشبه الصداقة كما قال، ذلك أن علاقته بهم التي بدأت في المقهى قبل سبع سنوات تنتهي بين جدرانها الحائلة، وتحت سقفها العالي، وتكاد تنقطع خارج هذا المكان، فهو بالنسبة إليهم رغم الاحترام الذي يمحضونه إياه لما يتسم به من وقار ومن سمت الأستذة، هو في النهاية لاعب رابع يشاطرهم أوقات التسلية، وينازعهم على الفوز، ولا يخلو من ملعنة اللاعبين، مما يوجب الترحيب به دائما على طريقتهم وكذلك التوجس منه .
وإذ يغمر الضجيج وكذلك سُحب الدخان والأراجيل أجواء المقهى الشرقية، فقد اعتاد رسمي تحمّل ذلك، مُنوّهاً لأصدقائه الذين لا يترددون على هذا المكان، ويتسللون إلى حانات مجاورة، بأن هذا الصخب يظل أقل وطأة وحِدّة من ذاك الذي يملأ رأسه، لذلك فإنه يستهون أمره بل يجد فيه بعض فائدة، إذ يؤدي إلى امتصاص ذلك الصخب الذي يُدوّم كالدوامات في الرأس.. في رأسه التي يمكن استبدالها برأس أخرى كما ألمح ذات مرة في إحدى قصائده.
يزاول رسمي اللعب بجدية بالغة واستغراق شبه تام إن لم يكن تاماً، إذ أن التوفيق في اللعب يمنحه الشعور بالرضا عن النفس، ويشحنه بالتفاؤل فيَسَعه بعدئذ في نهار اليوم التالي، أو ما يتبقى من ساعات الليل، أن ينجز واجباته بنشاط وبذهن صافٍ بما في ذلك واجب الكتابة، أما إذا خانه الحظ، أو وقع في أخطاء مهلكة نتيجة السرحان فإنه يستخلص من ذلك العِبر المفيدة، كأن يدرك استسلامه لضعف التركيز، أو اجتياح مؤثرات خارجية ليقظته الذهنية رغم الحواجز التي يضعها أمام هذه المؤثرات، هذا مع إدراكه حق الآخرين في الفوز أحياناً، ولا فإنهم قد يتوقفون عن اللعب إذا كان الحظ يُعاكسهم على الدوام. على أن رسمي بخبرة سنواته الست والستين، يدرك أن الأمر يتعدى التمتع بالحظ أو الحرمان منه، فهناك مناورات اللعب كالتقديم والتأخير، وهناك التمثيل كالظهور بمظهر يُربك اللاعب الآخر، فلا يدري نيات خصمه، وهناك المهارة في اختيار ما يتبقى من أوراق في اليد فلا تكون هذه "محروقة"، أو تجمع حصيلة كبيرة، وهناك تكتيك الفوز بضربة قاضية، أو على دفعات حسب مقتضى الحال .
وفي جميع الأحوال فإن "موازين القوى" على حد تعبيره، استقرت لمصلحته منذ أمد طويل، فهناك لاعب ممتاز هو أبو أحمد مساعد المقاول وهو من يحسب له حساباً، وهناك لاعب جيد هو أبو فراس الحلاق لكن ثقته المفرطة بنفسه تودي به إلى المهالك، وهناك أبو سمير موظف الضريبة المتقاعد، وهو لاعب جيد بدوره لولا أنه يكثر من حساباته، فيقع ضحية التردد والتغيير الدائم لتكتيكاته، وأيا يكن فإن الفوز في هذه اللعبة وتسمى الهاند، لا يتطلب بالضرورة تحقيق نتائج باهرة كاحتلال المركز الأول، إذ يكفي أن يحوز المركز الثاني وحتى الثالث كي تحيق الخسارة بصاحب الترتيب الرابع وحده، الذي يتكفل بدفع أثمان المشروبات وهذه تتراوح بين القهوة والشاي والكاكاو والببونج واليانسون والقرفة بالجوز والمشروبات الباردة لـ"الطاولة" أي لأربعتهم.
ينظر رسمي إلى هذا النشاط شبه اليومي بصورة شبه قدرية، إذ ليس له عمل في النهار يستنزف طاقته فهناك ساعات طويلة ينفقها في القراءة والكتابة والإصغاء لأخبار الراديو والتلفزيون، والتأمل المسترسل في أحوال العمر والزمن، ولما كانت أسباب الإثارة قد انقطعت في حياته، ولم يعد هناك متسع لصداقات يومية، فقد صادف في لعب الورق سلوى مناسبة.. تقليدية نعم، لكن من قال إن حياتنا ليست تقليدية وبليدة، ولأنه يُحب ويتعلق بوسط البلد منذ أكثر من خمسين عاماً، فليس غريباً أن يتعلق بمقاهيها فهي من أكثر الأماكن التي يشعر المرء (رسمي) فيها بالراحة، ومن أقل الأماكن التي لا يشكو فيها من الوحدة حتى لو كان بمفرده، إذ يسعه تبادل التحيات وأحيانا الحديث وحتى التعرف على آخرين، وعقد صدقات مع صاحب المقهى والنادلين الأردنيين منهم والمصريين، ويكفي حمل الصحيفة مثلاً حتى ينال الزبون الاحترام الذي يتوق إليه في مكان لا يخلو من شبه الأميين.
خلال عشرين عاما مضت طوّف رسمي في بلدان شتى، وأقام في بيروت والقاهرة وبرلين بضع سنوات، وذلك لأسباب سياسية ومهنية تتعلق بعمله الإذاعي السابق، وما أن عاد إلى عمّان حتى هاج في داخله حبه الأول لأسواق البلد والمشي في شوارعها وأزقتها (دخلاتها حسب المسمى الشائع) وتحسس نبض الحياة في زحامها، مع اختلاط الأصوات والروائح ودعوات الباعة لتذوق الأطعمة والمشروبات، وكذلك مطالعة الصفحات الأولى للصحف المفرودة أمام أعين القارئين والفضوليين، وهذا الإشباع أو أقله إثارة الحواس هو ما يفتقده في أنحاء عمان الجديدة، ومن دواعي الأسف أن الأصدقاء القدامى الذين كان يلتقيهم بغير ميعاد، قد هجروا وسط البلد التي كان المشي في أرجائه بمثابة نزهة المشتاق اليومية حتى أواسط الثمانينات، تاريخ عودته إلى عمّان، وبالنسبة اليه فإنه لم يفقد هذه المتعة، وإن كانت حماسته قد فترت، وهو ما حمله على الذهاب إلى عمق المقهى القوي الإضاءة كمن يعود إلى بيته الأول. بهذا بدأ ثم اشتد تعلقه بلعب الورق غير آسف ولا آبه بما يجري خارج المقهى في ساعات الأماسي.
قلما يتحدث رسمي لأحد عن نشاطه شبه اليومي هذا، إذ يحتاج الأمر إلى شرح دائم ومُضنٍ حول مسوغات الانصراف إلى لعب الورق، وعن مفهوم تبديد واستثمار الوقت وطبيعة النشاط المفيد وغير المفيد، ولماذا يختار لاعبين من خارج "الوسط".. وسطه، للعب معهم، إذ هم غرباء لا يعرفهم ولا يعرفونه، ومع ذلك يمضي معهم دون تردد زهاء أربع ساعات في اليوم الواحد، وحتى لا يضع نفسه في موضع الدفاع عن نفسه، وحتى لا تثور انطباعات بأنه شخص غريب الأطوار رغم إقراره أنه يتمتع بقدرٍ من غرابة الأطوار.. لهذه الأسباب وغيرها يدلف إلى المقهى، وينسل منه كمن يقوم بنشاط سري يستحق التكتم عليه، إلا اذا سئل من أحدهم عما اذا كان حقًا ينصرف إلى ما ينصرف إليه من الدوام المسائي في المقهى، فعندها يجيب بالإيجاب باقتضاب وهدوء شديدين، وبنبرة ملؤها الثقة والقناعة، تاركاً سائله يتخبط في فضوله، ويتشكك في أي النشاطات أجدى للمرء وأكثرها مجلبة للمتعة، وهو لا يدعو أحداً من أصدقائه إلى المقهى للمشاركة في اللعب، فلا هم يرغبون بذلك، ولا هو، واللعب مع غرباء أمتع على أي حال كما يقول، حيث لا محل للمشاعر والعواطف أو الأفكار المسبقة عن الآخر بين اللاعبين، ولا يولد الفوز أو الخسارة أية تداعيات على العلاقات الشخصية، التي لا وجود لها بين اللاعبين الأربعة، ومعهم ذلك الخامس الاحتياطي وهو الحداد بهلول الذي "يضرب الحديد وهو حامي" والذي يسد فراغ غياب أحد اللاعبين ويحل محله، وخاصة رسمي الذي يغيب أحيانا لمشاهدة أحد أفلام المهرجانات السينمائية، أو لحضور أمسية جرت مهاتفته لحضورها، أما مع اكتمال عدد اللاعبين فإن بهلول يكتفي بالفرجة دون تدخل، وفي الغالب فإن طلبه أي مشروب يكون على حساب الطاولة، وبهلول ليس اسمه إذ أن اسمه إبراهيم، وقد جرى إطلاق اللقب عليه عقاباً على تطفله الذي أصبح في ما بعد مقبولاً كأمر واقع، إضافة إلى جهوزيته للانضمام إليهم غبّ الطلب، دون أن يفارقه لقبه الذي حل محل اسمه، وقد تقبله في البدء على مضض قبل أن يأنس به، إذ أن اللقب يثير انشراح أربعتهم الأكبر منه سنا والأفهم منه، وبهذا فقد كان التنازل منه بقبول اللقب هو تذكرة بطاقته للانضمام إليهم، ومثل هذه الأمور تحدث بين رواد المقاهي الشعبية بقدر من الأريحية.
لقد أدت مواظبة رسمي على الالتحاق بالمقهى إلى انتظام حياته بصورة معقولة، إذ أن ساعات المساء بطيئة ثقيلة، حتى أنها تجثم كالرصاص على الصدر إذا لم يجرِ شحنها بقدر من الإثارة حتى لو كانت هذه نمطية، وهو ما يوفره الاستغراق في اللعب، ومجالسة أشخاص لا ينتظرون منك شيئاً سوى أن تشاركهم اللعب بأمانة واحترام فيطرح كل منهم عن نفسه عناء التفكير بعض الوقت في ما لا جدوى من إعادة التفكير به، ويُمضي وقتاً ممتعاً وسريعاً إلا إذا تتالت الخسارات، كما وقع كثيراً لأبو فراس الحلاق الذي يصغر رسمي بسنتين أو ثلاث سنوات، لكنه مع أناقته يبدو أكبر منه بالقدر نفسه من السنوات، وفوق ذلك فإنه أخرس تصدر عنه أصوات مبهمة يدرك معناها زبائنه وزملاؤه في المقهى، وقد حدث أن أوقع به المرض وأقعده الفراش، ولم يتيقن رسمي إذا كان من واجبه زيارته في البيت أم لا، وذلك بالنظر إلى محدودية العلاقة به خارج المقهى، حتى أنه لا يحلق شعره الرمادي عنده، بل في صالون حلاقة قريباً من مسكنه في الأشرفية، ولم يكن موقف الزميلين الآخرين أقل التباساً فقد غرشا أي تجاهلا الأمر، على أمل أن يعود أبو فراس في وقت قريب، وكان بهلول هو الوحيد الذي زاره رغم أنه لا يفهم عليه، وقد خشي رسمي حتى كاد يشعر بالذنب.. خشي أن تكون الخسائر المتتالية التي لحقت بأبي فراس في الأسابيع الأخيرة قد أضعفت معنوياته، فتمكن منه مرض السكري ومرض الضغط، وكذلك مرض الدوالي في عروق الساقين بحكم وقفته في صالون الحلاقة من التاسعة صباحا إلى الخامسة مساء، وللأسف فإنه لم يعد اليهم أبداً.. لم يمت، لكنه ادخر بقايا صحته، وما تبقى له من عمر للعمل في الصالون، وإقامة ما تيسر من الصلوات في مسجد قريب.
بهذا ارتقى بهلول إلى لاعب أصيل، ومع أنه لاعب في مستوى أقل من المتوسط إلا أن الحظ كان يقف إلى جانبه، وليس الحظ فقط بل إن أسلوبه في اللعب القائم على الثرثرة وتمايله الدائم في جلسته ذات اليمين والشمال، واستظرافه إطلاق النكات وتوزيع المجاملات المفاجئة بسخاء وبغير مناسبة، أربكت ثلاثتهم وخاصة رسمي، إذ أن أبو أحمد أخرس بدوره، أما أبو سمير فأطرش وهذا موظف متقاعد شرع ينقطع عنهم. لم يصبه مرض ظاهر رغم إفراطه في التدخين ولكن أم أولاده أخذ الله وديعتها فجأة وقد قاموا ثلاثتهم بتعزيته، بعد أن تحرّى لهم بهلول عن مكان العزاء، ورأوه مستسلماً وادعاً يحدق في شفاه المعزين دون أن يسمع شيئا، كما رأوا أبا فراس هناك، وقد بدا كمن ازداد عمره عشر سنوات في عشرة أسابيع، وبهذا بقي رسمي يلعب بصحبة أبي أحمد مساعد المقاول، والسيد بهلول الذي كان يزداد ثقة بنفسه كلما نقص لاعب، مستشعرا حاجة الآخرين إليه، وقد حدث أن انضم اليهم غير مرة لاعب رابع طارئ، غير أن رسمي لم يستسغ سلوك ولعب أحد منهم، وهو ما كان يوافقه عليه أبو أحمد بغير مناقشة، فاقتصرت الطاولة على ثلاثتهم بعد أن غاب شريكهم الرابع الأطرش الأرمل دون أن يترك خبراً.
والأغرب مما سبق أن بهلول بعد أن صنع شباك حديد لبيت رسمي وحلف بعِرضه وأرواح أمواته أن لا يتقاضى ثمنه، فقد بدأ يسعى لعقد صداقة معه خارج المقهى، وهو ما لم يكن رسمي يرحب به على أي وجه، فلديه أصدقاء كُثر وإن كان قلما يراهم ويرونه كما هو حال علاقات الناس في هذا الزمان، كما أنه يصعب على من هو في سنه أن يتصادق مع أناس جدد، واذا كان لا بد من ذلك فليس مع بهلول أفندي، الذي لا يدرك أن اللعب لعب والصداقة صداقة، وعدم الخلط بينهما هو بمثابة قانون معتمد لرفقة اللعب. وقد استشعر بهلول بحاسته التجارية شيئا من ذلك، فزعل وقاطع رفيقيه الباقيين مساعد المقاول أبو أحمد الأخرس، والأستاذ رسمي الذي عقب مع نفسه قائلاً: رضينا بالهَمّ والهَمّ ما رضي فينا.
وقد واصل الاثنان اللعب بصورة شبه يومية كما هي العادة، لكن بقدر ملحوظ من المكابرة والاعتصام بالصمت المطبق، فقد استغل رسمي انقطاع أبو فراس الحلاق الأخرس وأبو سمير المتقاعد الأطرش، كيما يتوقف عن الحديث بلغة الإشارة والهمهمات مع أبو أحمد الأخرس بعد أن كادت هذه اللغة تتلبسه، من فرط استخدامه لها من قبل مع الرفاق الثلاثة.
اللعب بصمت وبتبادل النظرات الزائغة وأحيانا الشزراء مع الرفيق الأخير بدا له، لرسمي، أن الأمر قريب من مسرحيات اللامعقول المملة. ما عاد يستمتع بالفوز، كما لم يعد يتقبل الخسارة ما دام أن اللعب نفسه لا يوفر تلك الإثارة، ولا يستحق تحمل الخسارة وهو ما يعجز عن شرحه للاعب متكلم، فكيف مع هذا المحروم من النطق، بل إن رسمي بدأ يساوره الشعور بجهله التام بهذا الشخص الذي يشاركه اللعب منذ نحو سبع سنوات، وقد عمد إلى التغيب بصورة متكررة رغم حنينه لأجواء المقهى واللعب، وكان يجد أبا أحمد كل مرة في انتظاره بعيون ملؤها الترقب والعتاب، وحيث تبلغ رسمي من النادل أنه كان يجلس في غيابه وحيداً ساهماً إلى ما قبل العاشرة ليلاً بقليل، وعرف أكثر من ذلك أنه فقد عمله الذي كان يؤمنه له أحد أقاربه المقاولين، وأنه يبحث هذه الايام عن وظيفة. يا للهول.. حدث رسمي نفسه قائلاً: رجل على عتبة السبعين ويفتش عن وظيفة، هذا ما بقي لي أن أشهد عليه بعد ان اختلطت المأساة بالملهاة اختلاط السكر بالملح.
ورغم مشاعر الكره التي بدأت تتسلل إلى نفس رسمي إزاء رفيقه التعس، بعيونه شبه الدامعة لكن الماكرة، والذي يصطحب معه بعض الأدوية فقد قبل التحدي، إذ بدا يرى الأمر من قبيل التحدي الشرس، بعد أن تغيرت أجواء اللعب، وبات يُطبق عليها الضيق والتوتر، وبعد أن استفرد به اللاعب الأخير، وأخذ يتناحر معه. لم تعد مسألة لعبة ورق من يخسر فيها، ومن يربح. من يُهزم فيها ومن ينتصر، بل كما قالت له ذات نفسه في أحد أحلامه: من يبقى منهما أخيراً على كرسيه في المقهى، ومن يموت أولاً..
(2003، عمان)

من الكتاب القصصي "سحابة من عصافير"، دار الساقي، بيروت 2005.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.