}

المقام الأخير من الصَّبا

عماد فؤاد 3 سبتمبر 2019
شعر المقام الأخير من الصَّبا
جون كونستابل ( Getty )
الشَّجرةُ العجوزُ على الرابية
ابنةُ السِّنينَ الطُّوال
كم طيراً مرَّ من هنا..
وكم عُشّاً
بنته المناقير الصَّغيرة؟

كم بيضة أفرخت
وكم بيضة
فسدت؟

 

الشَّجرة العجوز
باقية في مكانها

وحده الظِلّ
يغيِّر أمكنته
بدأب.

 * * * 

 في الزِّحام
حين تُمسكين أصابعي
أعود هذا الطّفل
الذي كان يمدّ يده
ذات يوم
كي يقبض على الرِّيح.

* * *

رجل يمشي بصعوبة
بسبب حصوتين في حذائه
لا يستطيع العثور عليهما
مَهْما بحث

ستراني أنحني في كلِّ مُنعطف
مثل عجوز
ساقي اليمنى تتيبَّس
حين أسير صاعداً تلَّة في الطَّريق
ويتكوّر ظهري بحدْبتين مفاجئتين
لو كان عليَّ
هبوط منحدر

أنا رجل
يمشي بصعوبة
لأنَّ حصوتين في حذائه
لا يستطيع العثور عليهما
مَهْما بحث.

* * * 

لم أخرجْ اليومَ من البيتْ
بقيتُ في بيچامتي أمام شاشة الكمبيوتر أُحدِّقُ في الأخبارِ وأنا جائعٌ، نسيتُ أن أغسلَ أسناني، نسيتُ حلاقةَ ذقني، لم تكن لديَّ شهيَّة لفنجانِ قهوةٍ أو كوبِ شاي، جرجرتُ قدميَّ البطيئتينِ تحتَ ثقلِ دماغي المشقوقِ من أثر الصُّداع، وقلتُ أُدخِّنُ

أمام شاشةِ الكمبيوترِ أجلسُ الآنَ
متتبِّعاً أخبارَ الحروبِ في الخارجِ
مثلَ صيَّادٍ وحيدٍ في غابةٍ مملوءةٍ بالبطِّ
أُضيِّقُ عينيَ اليُسرى
وأُطلقُ الطَّلقةَ الحيَّةَ
مُحاولاً إصابةَ الهدفِ
قبلَ أن يطيرْ.

* * *

نتذوَّقُ شفاهَنا
بعدَ كلِّ قُبْلةٍ
مثل صُوفيَّينْ
يصعدانِ إلى جبلٍ
اسمه الوعدُ
لينحدرا على صخْره
انحدارَ الصُّقورِ
قبلَ أن ترتفعَ
بالفرائسْ.

* * *

كانت ترتدي الحجابَ
وزياً واسعاً
ينتهي ببنطالٍ منفوخٍ

رأيتُها ثلاث مرَّاتٍ
المرَّةُ الأولى: كانت سكرانةً في السَّابعةِ صباحاً
تعبرُ الطَّريقَ، وهي ترتعشُ وسطَ السّيَّاراتِ
والمرَّةُ الثَّانيةُ: كانت تبكي في الليلِ
أمامَ بابِ مسجدٍ

آخرُ مرَّةٍ رأيتُها:
كانت في سيَّارةِ إسعافٍ
جسمُها على المحفَّةْ
ورأسُها
معلّقةٌ من شعرها
على حافَّةِ
الشُّرفةْ.

* * * 

العطشُ:
أن نعتصرَ لسانينا

كُلٌّ
بشفاهِ الآخر.

 * * * 

هو هذا الرَّجل
الذي يسقط من فوق الدَّرج
وأنت تراه من أعلى
أو من أسفل
تجْفل للحظة
مُتأهِّباً لنجْدته
وحين تكتشف عجزك
تتركه
لمصيره.

 * * *

النُّدوب:

الأثر الأخير

لجروحٍ

شقَّت الجلد الواحد

نصفين.

تلك التي

كحرفٍ

يلْتئم بحرف.

* * *

طبل يدقُّ...
كقدم راقصة حافية..
على بلاط

ناي ضائع كغريب في الخلْفيَّة، ودُفٌّ يتهادى على الطَّريق مثل فاقد الطَّريق. العازفون عِميان يتحلَّقون فوق منصَّة خشبيَّة وقد بدأوا من البياتي ومرُّوا بالنَّوى. ننصت بعيون مغْلقة ونحن نتطوَّح في الحلقة. صوت المُنشد مبْحوح يُنادي فيلْحقه العود وتواسيه الرَّبابة، غرقنا في العتمة المُدوِّخَة ونحن نرى الصَّوت المذبوح أمامنا، كانت السِّكين تذبح عند الحنجرة، بالضَّبط عند الحنجرة، تتحرَّك عصا الكمان إلى أعلى.. فتغوص السِّكين في الرَّقبة، تنزل.. فتنزل، رأينا أحباله الصَّوتيَّة تتمزَّق، ورئتاه تنتفخان وهْو يُخرج الآه عميقة من بئر. رأينا الصَّوت يعلو.. والدَّم يسيل، زِدنْا من غلق عيوننا وأسرعنا في تطوُّحنا محاولين اتِّقاء سقوطنا حين تنتهي آهته التي لا تنتهي، لكنَّه غافلنا...

حين بدأ المقام الأخير من الصَّبا
وانتهى
بالعجم.

* * *

لسانُكِ
حين أتمكَّنُ منه
بين شفتيَّ
 

اللغةُ
وهْي تعودُ
إلى مهدِهَا الدَّافئْ
بحركةٍ واحدةٍ
.. تُبادُ ممالك


وبأنَّةٍ خرْساءَ
تُمحى..
أبراجُ بابل.

 * * *

 البيوت
أماكن خشنة كحجر الرَّحى
ملساء كخديعة
دارت على أيامنا بما يكفي لهرْسها تماماً
وجعلها ناعمة كحبَّات الدَّقيق

نعود إليها، فلا نشعر إلا بأناملنا تقبض مع كلِّ ابتسامة على حفنة من دقيق ناعم، لا نعرف - أصلاً - ماذا نفعل بها، الشَّقيقات يبتسمن في وجوهنا، فنظنُّ أنَّهنَّ يمددن لنا الأيادي بكوب ماء وقدر

لنخبز رغيفنا طازجاً
والأشقّاء
ينظرون بعين التَّواطؤ السَّاخر:
اقذف الحفنة في الوجوه واجْر في البساتين
امسك زمام طفولتك
ولا تأبه بعصا الأجداد.

 * * *

 حين أينعت النَّبتة بُرْعماً في السَّاق
أكَلتْه الدُّودة
وحين انتفخت الدُّودة
أكَلَها العُنكبوت

انتهى العُنكبوت من بناء بيته
فدخلت الخادمة
وأزالت الخيوط الحريريَّة
بضربة منْفضة

في الصَّباح
أينعت النَّبتة بُرْعماً جديداً
كانت دودة أخرى
تصعد السَّاق ببطء
والخادمة تستيقظ للتوِّ من نومها
فيما العُنكبوت
في مخبئه
ينتظر.

* * *

أستطيعُ أن أتفهَّمَ تردُّدَ المُشرَّدِ
وأنتَ تمُدَّ إليه يدكَ
بصَدَقةْ

الرّعشةُ التي تضربُ أصابعَهُ
وهْي تتحرَّكُ في الفراغ الرَّهيفِ
بينهُ
وبينكْ

نظرةُ عينيه المُنكَّستينِ
وهْو يتحسَّسُ ملمسَ الورقةِ النَّقديَّةِ
التي صارت بكامِلها
بين أصابعهْ

أستطيعُ حتَّى
أن أتفهَّمَ الموقفَ
لو أنَّهُ
لم يتناولْها من يدكْ

وأنَّ عينيهِ
بدلاً من الانكسار في الأرضِ
صارتا مُحدِّقتينِ في وجهكَ
كما لو كانَ
سيصفعُكْ


الشَّعرةُ الفارقةُ تكمنُ هناكْ
في حركةِ أصابعكَ
وهْي تُفلتُ الورقةْ

ثمَّة انفراجةٌ ما
لابدّ أن تحدثَ
كي تهطلَ منها الرَّحمةُ
على الأرضْ.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.