}

رابية الخطّار وجرّاح الأحذية

محمود علي 26 أغسطس 2019
يوميات رابية الخطّار وجرّاح الأحذية
(Getty)
رابية الخطّار
البحر ينضح بجانبها. تلة صغيرة برملة بيضاء ناعمة، أشبه بشرفة مطلة على البحر، رغم ارتفاعها البسيط إلا أنك ترى العالم من على رأس التلة الصغيرة في رابية الخطار. وفي لحظة عارية من كل شيء إلا جنون تواجدنا وضحكاتنا الممتدة كسماء مفتوحة، ترى قاع العالم من فوق تلك الرابية جارة البحر وكأنك على طودٍ عظيم. يتسمر بصرنا فجأةً على سفينة نفط ترسو في عمق البحر، نهتف لها صارخين: إرم ذهبك الأسود في بطون المتخمين وإياك والبحر. نسيم البحر الناضح بجوارنا محملاً برائحة اليود المتمازجة مع رائحة السمك فجأة يداعبنا، وصوت ضحكاتنا تزلزل صمت المكان. وما إن صدحت الموسيقى إلا وشاهدت رجلاي تتقافزان على إيقاع أغنية شرقية وأشجار الهِرْم حولنا ترقص كذلك كلما داعبها النسيم وضحكة صديقي المجلجلة. وما أن عمّ الهدوء في لحظة صمت، الا وأشرت لهم فجأة إلى بقعة فضية في عرض البحر، ما كان ذلك إلا انعكاس ضوء طائرة تستعد للهبوط. في هذه اللحظة
الصامتة، ذكّرنا مِسْحاب السماء أو درب التبانة باللبن المحلي، لبن القرية، وكأنه مسكوب عليها. بين ثنايا اللحظة هذه نحدق في أفق البحر، نختزل بداخلنا أفكاراً كثيرة تارة تطول وتستقيم كمسطرة تذرع عمق الموج وتارة تنكمش وتتجعد كالزبد والرغوة وتذوب في رمل الرابية. مساكن البرجوازيين تطوق الرابية من جهتين، تبدو كسولة متثائبة لو قارنتها بهذه البقعة الصغيرة، هذه الروضة التي تصالحت مع الظلام وغدت كجزء منه لا تكشف ستر المكان. أيها الليل نحن سُمّار الرابية، كل شئ يحتفي بنا، شهب تتساقط على أعيننا، أصوات الجنادب المستئنسة بحضورنا في هذه الروضة. نبض الرابية يضيء بروح الأصدقاء وتلاقح أفكارهم المنفوثة باحتراق السجائر، ورائحة المشوي. الشراع التائه يطفو على ظهر البحر، يتمنى لو يشاركنا اللحظة ليقتل إحساس الاغتراب.



جرّاح الأحذية
عند تقاطع السكك الضيقة، وبين دهاليز الممرات، يسرق لحظي دكانه الصغير المشابه لكهف ضيق، كلما انتصب واقفاً كاد سقف المكان يصافح رأسه. يتكئ الدكتور إبراهيم أو الجراح إبراهيم، كما يحب أن يُنادى، مفترشاً الخشب بين فخذيه، محاذى بمسامير الرغبة ومحاطاً بخيوط العزيمة مسدداً إبر التصويب والتقويم ليخيط بؤس الأحذية ويرقع جراحها.

طبيب من غير شهادة يعالج أكثر الجراح عمقاً. يمارس حرفيته على مرضى لا يشبهوننا تماماً. بكل إتقان يتفنن في شك جروح مرضاه، وبيد ممارسة يتقن حرفته فيصلح ما أفسدته خطوب الأرض فيخيط شرخ جلودها. غبار الزمن وعث المكان وتمازج الأتربة وتطايرها كل ذلك لم يعد يشكل هاجساً للعم إبراهيم، فقد تصالح مع تلك البيئة منذ زمن بعيد وامتزجت إرادته بالعثرات ليتشكل حاجز مناعة حديدية جعلته يألف أجواءها بسلبياتها كما لو كان كل ذاك

التطاير جزءاً من عملية شهيق وزفير اعتيادية تضخها رئتاه. في دكانه يمارس الانفراد ليظهر التفرد فيولي حرفته جُلّ وقته. يسبر أغوار الخامات ويتأمل بعين فاحصة كل حذاء، وحده يعرف جودة تلك الأحذية من ملمسها، لا يبالي بماركاتها، كل ما يهمه أن يسعف ويخيط ما بين يديه، خبير بالجلد ما أن يلامسه ويتفحصه. طبيب يعي تماماً نطاق تخصصه وكلما أحس بغرابة النوع عنه اكتفى معتذراً متوجهاً إلى ما يجيد صنعته وصناعته.. في الكشك المربع الصغير حكايا وحكايا سردتها الأحذية له عن عشرات الأقدام. إنه الدكتور الإسكافي إبراهيم الذي لا يعالج البشر ولكنه يعالج أحذيتهم، تلك التي داسوا بها شوك الغابات وأرصفة الطرقات وتمزقت على إثرها شسع نعلهم. يرمق بعينيه أرض المارّة، يعلم أن لقمة رزقه تكمن هناك حيث الطرف السفلي لأرجلهم، كلما غرس إبرته ذابت خيوطها في مسامات الجلد وتجانست بدقة ليصبح الفتق المخيط كأنه لم يكن أو كأنه جزء من جلد الحذاء. يداه الخشنتان بفعل الزمن وقعها حرير، فتتناغم لمساته مع شقاء المساء.


*كاتب من سلطنة عمان.

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
24 نوفمبر 2018

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.