البحر ينضح بجانبها. تلة صغيرة برملة بيضاء ناعمة، أشبه بشرفة مطلة على البحر، رغم ارتفاعها البسيط إلا أنك ترى العالم من على رأس التلة الصغيرة في رابية الخطار. وفي لحظة عارية من كل شيء إلا جنون تواجدنا وضحكاتنا الممتدة كسماء مفتوحة، ترى قاع العالم من فوق تلك الرابية جارة البحر وكأنك على طودٍ عظيم. يتسمر بصرنا فجأةً على سفينة نفط ترسو في عمق البحر، نهتف لها صارخين: إرم ذهبك الأسود في بطون المتخمين وإياك والبحر. نسيم البحر الناضح بجوارنا محملاً برائحة اليود المتمازجة مع رائحة السمك فجأة يداعبنا، وصوت ضحكاتنا تزلزل صمت المكان. وما إن صدحت الموسيقى إلا وشاهدت رجلاي تتقافزان على إيقاع أغنية شرقية وأشجار الهِرْم حولنا ترقص كذلك كلما داعبها النسيم وضحكة صديقي المجلجلة. وما أن عمّ الهدوء في لحظة صمت، الا وأشرت لهم فجأة إلى بقعة فضية في عرض البحر، ما كان ذلك إلا انعكاس ضوء طائرة تستعد للهبوط. في هذه اللحظة
جرّاح الأحذية
عند تقاطع السكك الضيقة، وبين دهاليز الممرات، يسرق لحظي دكانه الصغير المشابه لكهف ضيق، كلما انتصب واقفاً كاد سقف المكان يصافح رأسه. يتكئ الدكتور إبراهيم أو الجراح إبراهيم، كما يحب أن يُنادى، مفترشاً الخشب بين فخذيه، محاذى بمسامير الرغبة ومحاطاً بخيوط العزيمة مسدداً إبر التصويب والتقويم ليخيط بؤس الأحذية ويرقع جراحها.
طبيب من غير شهادة يعالج أكثر الجراح عمقاً. يمارس حرفيته على مرضى لا يشبهوننا تماماً. بكل إتقان يتفنن في شك جروح مرضاه، وبيد ممارسة يتقن حرفته فيصلح ما أفسدته خطوب الأرض فيخيط شرخ جلودها. غبار الزمن وعث المكان وتمازج الأتربة وتطايرها كل ذلك لم يعد يشكل هاجساً للعم إبراهيم، فقد تصالح مع تلك البيئة منذ زمن بعيد وامتزجت إرادته بالعثرات ليتشكل حاجز مناعة حديدية جعلته يألف أجواءها بسلبياتها كما لو كان كل ذاك
التطاير جزءاً من عملية شهيق وزفير اعتيادية تضخها رئتاه. في دكانه يمارس الانفراد ليظهر التفرد فيولي حرفته جُلّ وقته. يسبر أغوار الخامات ويتأمل بعين فاحصة كل حذاء، وحده يعرف جودة تلك الأحذية من ملمسها، لا يبالي بماركاتها، كل ما يهمه أن يسعف ويخيط ما بين يديه، خبير بالجلد ما أن يلامسه ويتفحصه. طبيب يعي تماماً نطاق تخصصه وكلما أحس بغرابة النوع عنه اكتفى معتذراً متوجهاً إلى ما يجيد صنعته وصناعته.. في الكشك المربع الصغير حكايا وحكايا سردتها الأحذية له عن عشرات الأقدام. إنه الدكتور الإسكافي إبراهيم الذي لا يعالج البشر ولكنه يعالج أحذيتهم، تلك التي داسوا بها شوك الغابات وأرصفة الطرقات وتمزقت على إثرها شسع نعلهم. يرمق بعينيه أرض المارّة، يعلم أن لقمة رزقه تكمن هناك حيث الطرف السفلي لأرجلهم، كلما غرس إبرته ذابت خيوطها في مسامات الجلد وتجانست بدقة ليصبح الفتق المخيط كأنه لم يكن أو كأنه جزء من جلد الحذاء. يداه الخشنتان بفعل الزمن وقعها حرير، فتتناغم لمساته مع شقاء المساء.
*كاتب من سلطنة عمان.