}

حول مضي الأشياء

مي عاشور 9 يوليه 2019
يوميات حول مضي الأشياء
(إيفلين ويليامز)
كل شيء يمضي، كل شيء يمر. وبلا شك أن التغيّر من سُنن الكون، وطبائع الأشياء، فلا يبقى شيء على حاله، بل يتبدل ويتجدد. ولكن ثمة أشياء لا تمضي ولا تمر بهذه البساطة؛ وكأنك تنتظر عبور غيمة من فوق رأسك، أو تقف أمام مدخل دكان، تنتظر توقف المطر كي تمضي في طريقك. لا يكون مضي بعض الأشياء مثل انقطاع التيار الكهربائي لساعات قليلة، ولا حتى مثل حبيبين تشاجرا فكان خصامهما جدياً وكبيراً، ولكنهما على يقين أن هذا الوضع لن يدوم، ولا مثل نوبات الاكتئاب العابرة، ولا كانتظار فتاة تنظر إلى هاتفها مراراً وتكراراً بلهفة انتظار رسالة من شخص يسكن قلبها.
إن مُضي بعض الأشياء لا يحدث بسهولة، لا يكون أبداً كقطيرات مطر على نافذتك، تزعجك وتشوش رؤيتك، تنشغل أنتَ بكيفية مسحها، ولكن تأتي أشعة الشمس أو بعض النسمات لتجففها لكَ، دون أدنى مجهود منك، فتبقى فقط منها آثار أشبه بغبار طفيف غير واضح، تمحوه بسهولة بمجرد أن تمرر أناملك.
فمضي بعض الأمور مجهد ومعقد وله ثمن؛ لأنه قد يعصف بك حد الموت، ويجعل أفكارك تتناثر، ويجمد ضربات قلبك، ويخدر مشاعرك كلها. تصير تماماً أشبه بنبتة تطل برأسها إلى السماء، وفجأة تلمح من بعيد، من بعيد جداً، إعصاراً قادماً، تعلم أنها ستواجهه لا محالة، سيعصف بها، ويجعلها تتقوس منحنية حتى يلامس رأسها الأرض، سينقسم جذعها، أو يُنتزع من جذوره، أو تُقتلع تماماً من مكانها... لن تقوى على مجابهته، مهما كانت تملك من جسارة وثبات. وفي نهاية المطاف ستستسلم لذلك الإعصار مرغمة، ستندفع معه إلى مكان آخر، سيلقى بها هناك، لتبدأ من جديد...
هل ستقوى النبتة على التأقلم مع حياتها الجديدة؟ هل ستتحمل حرارة الشمس الملتهبة التي ستتعرض لها يومياً؟ هل ستلائمها الظروف الجديدة من تربة وهواء؟ ربما ستقول لنفسها إنها
صارت أقوى، وباتت قادرة على مسايرة الأشياء، ولكنها لن تنسى أبداً ما مرت به وتحملته، وما حملته في قلبها من ذعر وأسى، ستتذكر كل ما فقدته، ستواسي نفسها بالثبات والتماسك، وبالتئام عودها مجدداً بعدما كُسر.
والآن قد نبتت ثانية الوريقات الصغيرة التي كانت تحملها، وكذلك براعمها الصغيرة باتت تتفتح مع كل فجر جديد. فما مَرت به كان تغييراً مؤلماً وجذرياً، كان شيئاً هائلاً، ولكنه ربما كان حتمياً، لا خيار فيه ولا جدال، ولم تكن هناك رفاهية الفرار منه.
وبينما أنتَ تنتظر مضي الأشياء وانقضاءها وتلاشي آثارها، قد تشعر بأنكَ حبست بداخل خريف أبدي، يتبدل كل شيء من حولك، وتبدأ أوراقك في التساقط - واحدة تلو الأخرى - تظن أنكَ قادر على التحكم بها، ولكنك ستدرك أنك فقدت سيطرتك كاملة، حينما تشاهد تواليها في السقوط. ستفترش الأرض تحت قدميك بأوراقكَ الصفراء الهشة المتناثرة... ستعزم على المضي والتخلص من كل ذلك، ولكنك لن تفلح، ستشعر بالجمود، وكأن لا شيء بقي بداخلك، سيحاصرك الفراغ، ثمة لون أبيض يتمدد كالضباب، حتى تضيع بداخله.
وفي لحظة بعينها، بعد كل هذا العناء، ستشعر بشيء ما يتغير؛ إنه الخريف ينقضي، وبدون تمهيد، سيسكن فؤادك يقين أنكَ ستنمو وتتفتح وتزدهر.
وبلا مقدمات... سينقطع حديثك عن الحكايات القديمة، والمتروكة، وغير المكتملة، والتي استغرقت وقتاً لتجتازها، ستصير وكأنها لم تكن ذات يوم، ستتبخر كل تفاصيلها الصغيرة والتي كانت تحجب نور الشمس، وما علق بذهنك بشأنها... كل شيء متعلق بها سيذوب بشكل مفاجئ، سينهار في ومضة عين، سيُسحب إلى مكان ما كما تسحب الرمال المتحركة الأشياء، سيُنسى كما يفقد شخص ذاكرته في حادث، ستغرق في مكان سحيق... وحينها ستدرك أنكَ على أعتاب حكاية تماماً جديدة، ولولا ما مررت وما مضى لما وصلت إليها.
قد تبدو فكرة مضي بعض الأشياء مستحيلة، شعور مماثل لشخص يركب دراجة على أرض رملية، لا تدور عجلاتها بسهولة أبداً، ولكن بعد محاولات وصمود، ينتهي ذلك الطريق الرملي ليبدأ آخر ممهد. قد بدأ المضي في الطريق بالتعب والألم والعثرات والسقوط، لكنه انتهى بالسير بسرعة، أشبه بطلقة مدوية لحلم رأى نور تحقيقه في نهاية المطاف.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.