لم يفلح يوسف في مواساة نفسه، فقد كان يعرف أنّه لو كان هناك شاعر قد أحرق فعلاً ديوانه الأول لما تذكّر هذا الفعل أحد، ولما تطرق الشاعر لهذه الجريمة. ولنتنبّه، كما يتنبّه يوسف
لا شيء يعزّي يوسف. لا شيء في سيرة الأوّلين قد يعزي روحه الضائعة المحطمة. كل شيء مكتوب ومنقول بعناية. كل مأساة يؤنّقها شاعرها الخاص. كل أسطورة كتبت بعناية الشاعر نفسه. كل صورة نُحتت لأنّها هكذا كان يجب أن تُنحت، ولم تُترك لفوضى الأقدار وكُتّاب السير. لا شيء في سيرة الأوّلين قد يسعف روحه التائهة. كل ما يملكه هو فشله الخاص، مأساته الخاصة، خيانته التي لم تعد لذيذة، بل صارت مُرّة مثيرة للشفقة والسخرية في آن.
فجأة تبادرت إلى ذهنه حقيقة أخرى. فكّر في أنّه لن تكون هناك حقيقة خاصة أو نهاية واضحة في حرق ديوانيه. فما الذي سيصنعه بنفسه إن فعل هذا؟ لا شيء! ما الذي سيجنيه؟ ربما ندم مضاعف، ربما شعور بأنّ فرصة كانت سانحة في الأفق وقد قتلها لتوه. شعر بخضوعه لرقابة أليمة، لعقاب دائم. شعر بالشهود الدائمين عليه، على فشله ومأزقه الوجودي الضئيل. الشهود كانوا يتلصصون عليه في عزلته ويزيدون من ورطته ومن عذابه. إنهم هنا، في غرفته الخاصة، وقد أدخلهم هو بنفسه، وسمح لهم برقابته، ونصّبهم شهوداً عليه إلى الأبد. كانوا ينظرون إليه من بين صفحات الكتب التي تعبئ رفوف المكتبة، يراقبونه بصمت ولكن بقسوة أيضاً.
فإن كان يبحث عن الحريّة المطلقة، اللامبالاة، النهاية الواضحة والحقيقة الأبديّة، مرّة واحدة وإلى الأبد، مرّة واحدة هي الأبد.. فقد عرف أنّ هذه المرّة هي في إحراق هذه الكتب وإحراق غرفته للمرّة الثانية في حياته. الحريّة هي أن لا يملك غرفة خاصة به أبداً. كان يجب أن يعدِمَ الشهود، أن لا يبقي أثراً للجريمة المقترفة منذ تسع وعشرين سنة، أي منذ ولد شاعراً مغموراً. كان يجب أن يتخلّص من الشهود فلا تعود هناك جريمة، ولكن على خلاف الشاعر الخالد، كان يوسف هو القاتل، والشهود هم الضحايا، أما ديوانَا الشعر فقد كانا هناك في زاوية الغرفة، مهملين لا ضرورة لهما، قطعتين زائدتين عن وجود يوسف.
*كاتب من فلسطين. النصّ مقتطف من رواية "متسوّلو الخلود" التي ستصدر قريباً عن دار هاشيت أنطوان/ نوفل، في بيروت.