}

فصل من رواية "ملتقى البحرين"

وليد سيف 19 يوليه 2019
قص فصل من رواية "ملتقى البحرين"
وليد سيف
ربما أخذت المرأة بالسيف... أو المال... أو السيف والمال. ولكن لا يؤخذ قلبها.


لم تكن بالزوجة المحبّة وإن كانت المقدَّمة بين نسائه، وصاحبة الأمر والنهي في خاصّة قصره. ومع ذلك كان يخامرها بين الفينة والأخرى شعور غامض بالإشفاق عليه، لما ترى من وحشته وتوحّده. ولم تكن مظاهر التعظيم والهتاف والاحتشاد في المناسبات العامة لتغرّها عن واقع الحال. فهي تدرك ما يدركه هو من أن العامة تخشاه ولا تحبه. ومهما يكن الحجاب المضروب بينها وبينهم فإنه ليتناهى إلى سمعها أنهم يصفونه بالوحش. وإذ ترى انقباضه واستيحاشه تتذكر أن الوحشية والوحشة والاستيحاش كلها ترتد إلى جذر واحد. بل إن وحشته لا تستخفي حتى في النوبات المتقطعة التي يُقبِل فيها على المتع واللذات فيسرف فيها إسراف من يظن أن شمس الغد لن تطلع عليه. لكأنه يريد أن يثبت أن انصرافه الطويل عنها ليس لعجز فيه، وأنه يمعن في ذلك لأنه ببساطة يستطيعه، أو لعله يرجو به ساعات من الغفلة والنسيان. إنه على نحو ما أسير قوته. ولئن كان هو المسؤول ابتداءً عن صنع تلك القوة الطاغية، فإن القوة المصنوعة ما تلبث أن تصير صانعة، فتفرض شروطها على مالكها، وتلزمه استعمالها حتى تصبح كلفتها ومغارمها في لحظة ما أكثر من مغانمها. ولكن، لا سبيل للرجوع عنها بعد الذي خلّفته وراءها حتى لو لم يعد أمامها إلّا المهالك.
طوى جسمه على سرير الملك مستنداً برأسه ويديه على إحدى حشاياه. وكانت تلك إشارة معتادة تفهم منها أنه لا يرغب الآن في الإيواء إلى فراشه، وأنه يرغب أن تتركه وحيداً. قالت بأسلوب عارض هادئٍ وهي تتجه للخروج:
- ابتعت لك جارية من أجمل النساء، وأحسنهن صوتاً وأكثرهن علماً. سأدخلها عليك، لعلك ترى وتسمع منها ما يُسرّي عنك.
لم يجب، وكأنه لم يسمع شيئاً.

كانت قمر تقف لدى الباب في الانتظار. وقد سمعت طرفاً من الحوار، بل تعمّدت أن تصيخ سمعها لتقدّر ما الذي تُقبِل عليه. استرجعت وصايا أبي حسان كلها، ثم قررت أن تطيع

غريزتها الداخلية. وإذ دخلت بهدوء تحمل بيدها عوداً انحنت له عن بُعد.
- مولاي.

كانت ظلال العتمة الجزئية تسقط عليه فلا يظهر لها بوضوح. لم يتحرك من مكانه ولم ينبس لها ببنت شفة. فجلست على أقرب مقعد دون أن تنتظر إذنه على خلاف الوصيّة. ولما طال الصمت ولم يبدِ السلطان أي اهتمام وكأنه لم يشعر بدخولها كان لا بد أن تبادره على حذر:
- أنا بأمر مولاي.

بعد لحظات أخرى من الصمت، وعندما ظنت أنه ذهب في النوم سمعت صوته يخاطبها لأول مرة بنبرة خاملة، دون أن يدقق النظر فيها.
- ما اسمك.
كادت تجيب بأن اسمها قمر، ولكنها استدركت بسرعة:
- سلمى بنت ميمون الداريّ.
هنا رفع رأسه قليلاً لأول مرة دون أن يعتدل بجسمه من ضجعته على الأريكة، وأرسل نحوها نظرة حائرة مستفسرة، وإن لم يكن بوسعها أن تتبين ملامح وجهه حتى الآن في عتمة الموضع الذي لم يبلغه ضوء المصباح اليتيم الشاحب.
- كيف قلتِ؟
- سألتني عن اسمي يا مولاي... سلمى بنت ميمون الداري.
- ما هذا باسم جارية!
- وكيف ينبغي أن يكون اسم الجارية يا مولاي!
- أعني ليس من المألوف أن يكون اسم الجارية على غرار أسماء الحرائر. وإنما هو لفظ تشبيه في العادة: جمانة، زمردة، ريحانة، ورد، ياسمين، وهكذا... شيء يتعلق بالجمال أو الظرف، أو الزينة! أما سلمى وليلى وهند وزينب وعاتكة فغريب... غريب حقاً! والأغرب منه أن تنتسب الجارية فتذكر في اسمها أباً وجدّاً ولقباً كسائر الناس.
- أليست من الناس يا سيدي!
- ربّما... ولكنها جارية أيضاً. تتعرّف باسم واحد... الاسم الذي تُنادى به.
- ولكن الجارية لم تسقط من السماء ولم تنبت من الأرض! إنما ولدت لأب وأم كغيرها من بني آدم... ولها نسب فيهم. والكل لآدم، وآدم من تراب. وإن أكرمنا عند الله أتقانا... وحد التقوى لا يعلمه إلا الله. هل أخطأت في فهم نصوص الدين يا سيدي!
أدركت هنا أنها نجحت في جلب اهتمامه حين بدأ يعتدل ببطء من ضجعته إلى وضع الجلوس على الأريكة. ولأول مرّة ينعكس ضوء المصباح على وجهه وجسمه ليظهر لها بوضوح كافٍ اهتزت له جوارحها. لم تكن هزة الرهبة التي تصحب رؤية الشيطان لأول مرة. ولكن، هل يمكن أن يتمثل الشيطان في مثل هذه الصورة البديعة من الوسامة والفتوة والجمال!! أين القرنان والحاجبان الكثان والعينان الجاحظتان اللتان تقدحان شرّاً وشرراً؟! أين العنق القصيرة المركبة على كتفين ضيقتين وظهر متقوّس؟! أين الساقان الغليظتان القصيرتان اللتان تحملان جذعاً لا خصر له؟! هذا الرجل الذي تنظر إليه الآن يبدو في بركة الضوء الشاحب وكأنه خلق كما يشاء من رأسه حتى أخمص قدميه. لكأنّه فارس قد انبعث من عالم الأحلام والملاحم والأساطير. كيف يمكن أن يكون الشرّ بهذا الجمال الآسر والفتوة القاهرة؟ بل هو الشيطان في أخطر صوره، حين يكاد منظره الجميل يصرف التفكير - ولو للحظة- عن مخبره القبيح، حتى يأخذك على حين غرّة وأنت غافل عن نفسك. أليس الرائع المدهش والمريع المفزع من جذر لغويّ واحد؟ فهذا الوحش الجميل كلاهما معاً. وهو ما زادها غيظاً منه، ذلك أن اجتماع الضدّين مربك للخصم على نحو ما.

كاد استغراقها في التأمّل أن يشغلها عن سماعه وهو يتابع حجاجه:
- أصبت في القاعدة، وأخطأت في إنزالها على واقع الأمور. نعم، التقوى لا يعلمها إلا الله. وهي مدار التفاضل عند من يعلمها وحده. أما البشر الذين لا يعلمونها، فكل على منزلته من نظام الدنيا وناموس الحياة. والآن فهمت مرادك... أما اسمك الذي سمّاك به أبوك فقد كان في زمن آخر وحياة أخرى، وكلاهما قد انقضى ولا يعني من يناديك... فما اسم الجارية الآن؟
- قمر.
- أليس عندنا جارية أخرى تدعى «قمر» أيضاً؟
- لا أدري... ربما... أنا جديدة... ولكن... أليس...
ترددت قليلاً قبل أن تستأنف:
- أليس من المفروض أن يعرف مولانا جواريه؟

اهتز قليلاً كما توقعت، بل كما أرادت. وبدلاً من الخوف زادها ذلك ثقة وشجاعة.
- المفروض!! يحسن أن تعتني بانتقاء ألفاظك أيتها الجارية. ليس على السلطان فرض مفروض! ألم يعلموك ذلك في دار النخاسة!
- علموني أشياء كثيرة... وزودوني وصايا كثيرة... ولكن لو أطعتهم لما اعتدلت في جلستك يا مولاي، ولما وجدت في نفسك أن تخاطبني وتسمع مني!
لم يرد أن يجهر بتأييدها وقد وافق كلامها حقيقة الأمر. هذا صوت مختلف لم يألفه من قبل. ولم يقطع حتى الآن إذا كان يسرّه أو يسوؤه، وإلى أين سيفضي، ولكن الجديد الغريب يغري

بالاهتمام على كل حال. وفي المقابل أغراها سكوته عن كلامها الأخير، بأن توغل خطوة أخرى في اختبار خطتها في إثارة اهتمامه ونشاطه.
- لو كانت الأخرى قمراً حقاً لتذكرتها يا سيدي.
- قمر، بدور، شمس... من يذكر قمراً بين تلك الأقمار!
- ليس العتب على الذاكرة يا سيدي. إنما هو على المذكور. فلو كانت تستحق لذكرتها!
- هه! ربما كنت محقّة.

ها هو قد أقرّ لها بصواب الرأي. فلتذهب وصايا أبي حسّان إلى الجحيم. قد صدق ظنها وصحّ تقديرها. هذا الرجل المستوحش المتوحّد لا يرغب في قمر آخر وزمردة أخرى، ولا في سماع المدائح الكاذبة التي لو أعيد إلقاؤها بين يدي سلطان آخر لما أدرك أحد أنها قيلت في غيره أولاً! إنما يريد أحداً يخاطب شخصه، ولكن دون أن يتعدّى على هيبته. وهو مطلب بعيد صعب محفوف بالمجازفة. فما هو الحد الذي لا ينبغي تعدّيه؟ فحتى السلطان، صاحب الحد، لا يستطيع رسمه بدقة في نفسه. وهو ليس ثابتاً في ذاته في الأحوال كلّها، إذ يتقدّم أو يتأخر قليلاً مع تقلب مزاج السلطان، وطبيعة الموقف وشهوده، وعلى أي حال فإن من المفارقة أن وضع الجارية يجعلها في هذا الأمر في حال أفضل وأقوى من الرجال الأحرار، وحتى من القادة والأعيان. فهي أقلّ وأضعف من أن تلحق بها شبهة التحدّي والتطاول المقصود والجرأة المميتة وأطماع الأقوياء. كما أنها لا تتواصل مع السلطان إلا في حيّز خاص لا شهود عليه من الخارج، وفي جو حميمي أحياناً يتحمل إسقاط الكلفة. فإذا تجاوزت الحدّ قليلاً إما أن يُحمل ذلك على الدلال، وإما على الحمق وضعف العقل مما يلحق بالأنثى عامّةً وبالجارية على وجه التخصيص.
غَمْغم السلطان كأنه يخاطب نفسه في مسألة خامرت تفكيره:
- هه! قمر! لا أدري لماذا يسمّون الجارية قمر، ثم يجعلون اسم بدر للغلام، وكلاهما معنى واحد. وكلاهما مذكّر؟ فلماذا يصحّ أحدهما في الأنثى، ولا يصحّ الآخر؟ هه! فإذا جمعوا بدر على بدور صحّ الجمع أن يكون اسماً للجارية، بخلاف مفرده! أين العقل في هذا؟ أين المنطق؟
-علمونا أن اللغة عُرف يا مولاي تتواضع عليه الجماعة، وليست أمراً تفرضه طبائع الأشياء. وعلمونا كذلك أن التأنيث والتذكير يمكن أن يكون أحدهما معنوياً لا لفظياً... كأن...

قاطعها بنبرة مستعجلة متضجرة:
- نعم، نعم. كتأنيث الشمس وتذكير القمر... ونحو ذلك. يبدو أنهم أحسنوا تعليمك.
- أو أني أحسنت التعلّم.
رَمَقَها من جديد بنظرة متفحصة مستطلعة، فلم تعرف هل هي نظرة إعجاب أم ضيق. حرّك يده كأنه يستعدّ لصرفها، فأسرعت بالكلام.
- أسمعك صوتاً يا سيدي؟
أجاب بغير حماس:
- هاتي إن كان هذا يهمّك. صوتاً واحداً ثم انطلقي.

ضربت على العود بحذقٍ، وغنت بيتاً من شعر جميل بثينة، وقبل أن تنتقل إلى البيت الثاني أسكتها بشيء من الضيق والانفعال:
- غزل... غزل!
- ألم يعجبك صوتي يا مولاي؟
- صرفني الكلام السقيم عن الصوت. هه! رجل يموت صبابةً من أجل امرأة. فليمت أماته الله. هل يجب أن يعلن بضعفه ويشهدنا على لكاعته؟ هه! جميل بثينة! أفما كان يأخذها بالسيف بدلاً من...
تقاطعه قبل أن تتنبه إلى أن ذلك من سوء الأدب مع السلطان:
- لا تؤخذ المرأة بالسيف يا سيدي.
نخر مندهشاً من جرأتها، ثم وجد نفسه أكثر اندهاشاً من صبره عليها. ولأول مرة يقف ويتحوّل بوجهه وجسمه نحوها.
- كل شيء يؤخذ بالسيف... أو المال!
ثم أشار إليها إشارة دالة وهو يستأنف الكلام.
- أنت أجدر الناس بأن تعلمي ذلك.
أدركت القصد.
- فليكن. ربما أخذت المرأة بالسيف... أو المال... أو السيف والمال. ولكن لا يؤخذ قلبها.
- ومن يريد قلبها؟
أجابت بسرعة وبلهجة قاطعة:
- من كان له قلب مثلها.

تمشّى قليلاً في المكان:
- القلب! هه! أهذا خير ما يعلمون الجواري؟
- أما هذا فتمليه الطبيعة والفطرة والقلب نفسه، لا المؤدبون. قل لي يا مولاي...

يقاطع ساخراً.
- هل أقول: السمع والطاعة أيتها الجارية!
- العفو يا مولاي... إن شئت سكتُ عن السؤال.

أخذت تراقبه وهو يتمشى قليلاً قبل أن يجيب.
- قولي!
- هل تحب شعبك؟
- ما هذا السؤال؟ بالطبع أحب شعبي... أنا الراعي والحامي والسلطان... ووالد الجميع.
- وهل يحبك شعبك؟
- هل تعلمين أي الأسئلة أكثر سُخفاً، وأنت من أثنوا عليها بالعقل والفطنة؟ أسخف الأسئلة ما لم يكن لأحدها إلا جواب واحد قاطع لا مجال للاختلاف عليه، ولا معنى لترقبه. فهو تحصيل حاصل. فالسؤال عنه حمق وفضول. وكذلك سؤالك عن حب شعبي لي.
- تعني حين لا يكون ثمة خيار في الإجابة! فليكن... إذا كان كذلك، فكيف تحب شعبك دون أن يكون لك قلب تحبهم به، وكيف يحبك شعبك دون أن يكون لهم قلوب يحبونك بها. فإذا كان الحب بين الراعي والرعية يوجب وجود القلب الذي نحب به، فكيف لا يكون هذا في الحب بين الرجل والأنثى؟!
- إنك لجريئة!
- ألستَ من سخر من القلب قبل قليل؟
- هيا... هيا اخرجي... لو كنت أقيم لك وزناً لغضبت. وغضبي نقمة وعذاب. ومع ذلك لا تعوّلي كثيراً على هذا... هيا.. لم يعد لي بك حاجة الآن.
- وكان لك قبل الآن؟

نهضت من مكانها ومشت نحو الباب، ولكنها توقفت هناك، بينما كان يراقبها بطرف عينه. فجأة استدارت في مكانها نحوه وبادرته بسؤال:
- هل أحببت يوماً امرأة؟ إن لم يكن بعد السلطان وتشابه الأقمار والنجوم والزمرد، فقبل ذلك، حين كنتَ...
- لا تكفين عن إدهاشي بجرأتك أو الأصح بصفاقتك. فطنة وحمق؟ هل يجتمعان؟ نعم، نعم، يجتمعان أحياناً... ثمة عالم ما زال في صحبة الكتب، حتى غفل عن طرق الناس... فأصابه الخَرَق.

كانت قد أدركت من صبره السابق عليها، أنه يرغب في المزيد وإن لم يُبْدِ بذلك فأحبت أن تختبر صواب تقديرها.
- العفو يا مولاي... لعلي قد جاوزت حدّي حقّاً... طاب مساؤك يا سيدي.
تحني له رأسها وتهمّ بالخروج. ولكنها كانت مصيبة في تقديرها.
- تريّثي.

ابتسمت ابتسامة الظَّفَر وهي مستديرة عنه، ثم محت ابتسامتها واستدارت نحوه.
- لا بأس. سأجيب. لا لشيء إلا لأن السؤال يغري بالحجاج، لا سيما مع المتحذلقين من أمثالك الذين غرّهم طول الثناء فظنوا بأنفسهم خيراً. فصار لا بدّ أن يردّهم أحد إلى منزلتهم كيلا يتمادوا فيهلكوا... والآن... لماذا أحِبْ امرأة؟ لماذا يحب رجل، أيُّ رجل، امرأةً بعينها دون

غيرها؟ هه!
- تجيب يا مولاي أم تسأل؟
- قولي: لماذا؟
- ربما لصفات فيها وافقت طبعه ومزاجه.
- ربما ! هه! ربّما...

قالها ساخراً وتابع.
- وهل انْفَرَدَتْ بتلك الصفات التي اجتذبته دون نساء العالمين؟
- لا... ولكن... هذه دون غيرها من جمعه الله بها.
- إذن، لو أن الأقدار لم تجمعه بها، لوجد غيرها فوقع في غرامها سواء. أليس كذلك؟
ينظر إليها مستطلعاً ينتظر التأييد. تهز رأسها بالموافقة دون حماس.
- لا بأس... ولكن هل يجب أن تكون الأخرى مطابقةً للأولى في الصفات؟ أعني، قد يتعلّق رجل ما بامرأة، ثم يحدث ما يصرفه عنها ويصرفها عنه. فيتعلّق أخرى لا تشبه الأولى، لا في الرسم ولا الخُلُق. ألا يحدث هذا؟ هه!
تهز رأسها من جديد.
- أما الدعوى باتفاق الطبع، فلا حقيقة له. فقد يتعلّق قلب الرجل القوي بالمرأة الضعيفة، والرجل الحاد الطبع بالمرأة الهادئة، والفاسق بالتقية... بل يكفي القول: إن الرجل قد يقبل على امرأة تنفر منه. فلو كان أحبها لاتفاق الطبع لوجب أن تحبه للسبب نفسه. أليس كذلك؟ أزيدك إذن... هذا رجل أغرم بامرأة لصفات اجتذبته فيها، ثم حين اختبرها تبيّن له منها ما صرف قلبه عليها. فهل نقول إنه أغرم بالصفات لا ذات الشخص نفسه؟! هل هذا هو الحب الذي تغنّى به أولئك الشعراء؟ حب سلمى وليلى وزينب وهند؟

يراقب ردة فعلها من جديد، ويرين الصمت.
- ما بك؟ لماذا تصمتين الآن؟
- لا أدري... أعني... قوة الحجاج لا تعني الصواب دائماً (وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً).
- آآه.. هذا مخرج العاجز إذا أُفحم... ولكن أنْصِتي الآن إلى فصل الكلام. ليس الحبّ الذي تغنّى به الشعراء، ودارت به أخبار العشاق إلا فكرة اخترعناها لنزيّن بها الطبائع الحيوانية، ثم نتسامى بها عن أصلها في الطين الذي خُلِقنا منه. فقد ركب الله فينا هذا الميل بين الذكر والأنثى... غريزة عامة في الإنسان والحيوان، آلتها الشهوة وغايتها النسل. فلو لم تكن هذه الغريزة لانصرف الرجال إلى مطامعهم عن النساء والولد. وإذن لانقطع النسل. لماذا يحب الرجل امرأة بعينها؟ لأنه لا يستطيع الحصول على كل النساء، فهو يلقي على تلك المرأة كل ما يرغب في النساء. فإذا انقضت الرغبة انقضى معها وهم الغرام والهيام. وغابت معاني الشوق والسهر وأوجاع الهجر وآمال الوصال. فإن بقي شيء من المودة حلّ مكان حديث الغرام حديث الألفة والأليف وحُسْن المعشر والرعاية والوفاء والتذمم. كم من شعراء العرب والعجم مكث يتغزل بزوجه غزل العشق والصبابة؟! إذن فالحب الذي تتحدثون عنه إنما هو نتاج الحاجة والرغبة. فإن كان كذلك، فما حاجة الرجل الذي يستطيع أن يملك من يشاء من النساء... و... وحتى من لا يشاء منهن، ما حاجته إلى الحبّ؟!
- وهذا هو السلطان؟
- هيا... اخرجي الآن إلى حجرتك. انتهى هذا الحوار. لا أدري كيف رضيت أن أمضي به هذا الوقت. لا أدري منذ متى فعلت شيئاً كهذا؟
- أنا أدري!

باغتته العبارة.
- تدرين ما لا يدري السلطان عن نفسه؟!
- أنت تكابد الوحدة يا سيدي.
- أنا أكابد الوحدة؟ إنما يكابد الوحدة من يطلب الرفقة فلا يجدها. وأنا صرفت الوزراء والأعيان من مجلسي قبل أن يرتاحوا على مقاعدهم.
- وأمضيت في صحبتي كل هذا الوقت في ذلك الكلام.
- في صحبتك؟! السلطان في صحبتك؟! هل جننتِ أيتها الجارية؟
- يا مولاي. نعم، صرفت الرجال من مجلسك لأنهم كذابون منافقون، يخاطبون صفة السلطان لا الإنسان فيك... سلطان السطوة والنقمة والجبروت والعطايا. لا إنسان القلب والعقل والروح.
- وأنتِ؟ لا تخشين مني ما يخشون؟
- يا سيدي... لا منزلة الجارية تنسيني أنني إنسان، ولا منزلة السلطان تنسيني أنك إنسان. ولِمَ تغلب عليّ الخشية من السلطان؟ تنكبني؟ ليس عندي ما تنكبني به! أم تقتلني؟ أنا أقلّ من أن

تثبت بي قدرتك أو تردع بي خصومك! كما أني أكثر زهداً بحياتي من زهدي بصفة الجارية وأنا التي وُلِدت حرة لأب حرّ. والآن هل تأذن لي يا سيدي؟

عندما أوى إلى فراشه وحيداً في تلك الليلة، ازداد عجباً من نفسه حين تنبه إلى أنه لبث يفكر فيها ويسترجع ما دار بينهما. وقد صرفه ذلك تماماً عن أرق التفكير في مشاغل الحكم، ولأول مرة منذ زمن طويل يغرق في نوم عميق.
أما هي فلبثت طويلاً تتقلب في فراشها الجديد. ولم يكن ليؤرقها إلا الخشية أن يدخل عليها فجأة. فهي جاريته التي ابتيعت لمتعته. وعزمت أمرها أنه إذا وقع ذلك، فسوف تعتذر له بما يعذر النساء كل شهر. ولكن إلى متى؟! وحين أعجزها التفكير في الطرق، قررت أن تؤجّل التفكير في الأمر إلى يوم آخر. وهنا غمرها شعور بالغضب تجاه المعلم علي كاد أن يطغى على مشاعر الحنين.
أما المعلم نفسه فبات ليلته كلها أرقاً مهموماً مغموماً يتقلّب على مِثْل الجمر، ويطلق نفثات حرّى، ويضرب رأسه بباطن يده بين الفينة والأخرى، بينما تنزل الصور المتخيلة على رأسه كالمنجنيق. هل تمكّنه من نفسها؟! وهل تملك الجارية أن تمتنع عن صاحبها؟ فكيف إذا كان السلطان!
أم ظنّ أنها تستطيع ما استطاعته شهرزاد مع شهريار فتشغله طويلاً بمتع العقل والقلب والقَصَص المشوّق! تلك حكايات لا نحب أن نفسد على أنفسنا متعتها بالسؤال عن صدقها وإمكان حصولها في واقع الحياة. ما الذي فعلته يا عليّ؟ لم يقدّر قبل الآن مدى غيرتِه عليها كلما تصوّرها في فراش السلطان. وكل المسوغات والغايات العظيمة التي دعته إلى ذلك التدبير وساقها لإقناع صاحبته قد أخفقت الآن في تهوين الأمر عليه. لم يعد ثمة مجال للتراجع عن خطة الثورة بعد الآن، وإلا فحياته كلها عبث.

 *فصل من رواية "ملتقى البحرين" للدكتور وليد سيف تصدر قريباً عن الأهلية للنشر في عمان.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.