}

بيتنا الكبير

عيسى الشيخ حسن 15 يوليه 2019
شعر بيتنا الكبير
(عمر حمدي)
النافذة

أعرفُ صيَّاداً في قريةٍ بعيدة
يأتي إلى بيته آخر النهار
فينزل من ظهر حصانِه
تتبعه طيور ذابلة
خجلة
لا تنظر إلينا أبداً
زرازير
حمام برّي
حجل خائف
وعصافير أحياناً
عصافير خرساء
تنظر إلى الأرض

***

يترجّل الصيّاد
لا يحضن أولاده
لا يقبّل امرأته
لا يلقي إلينا نظرة
حتى نظرة حيّادية
نحو أولاد مصابين بالفضول
حتى إنّنا لا نتذكّر صوته
يفتح باب الحوش بهدوء
يتبعه حصانه
وكتيبة الطيور الملمومة
في (خُرج) نظيف

***

في المدرسة نسأل ابنه عن العصافير
عن رجفة الزرزور في الشتاء
عن حزن الدُّورِيّ في الأصابيح
عن لون الحجل البرّي
لكنّ المسكين لا يجيب
وأخوه الأصغر كذلك

لا يعرف ما الفرق
بين "الصعو" والعصافير العاديّة
وأخته الكبرى
خرساء
تماماً

***

العائلة التي لم تتعلّم "منطق الطير"
لأن العصافير لا تقفز قرب "كاسة" الشاي
في حوشهم
لا ترفرف فوق "قاووشهم" المعشب
رغم أنهم يمتلكون بندقية صيد


سقف

خبّأتُ في جيبي ثلاثين يوماً
ادّخرتها ساعةً ساعةً
ودقيقةً دقيقة

***

يدي في جيبي
تقبض على النقود
وتعدّها 
1- 2- 3- 4- 7- 9- 15- 19- 25- 30
بقلق أعدّها
بعد مغادرة الحاجز
وأعدّها بخوف

عند كلّ قصف جديد

***

- هذا راتبك من الوهم
قال الرجل الذي لم يشارك في الحرب.
- هذا قرض مستحقّ
قالت المرأة الثكلى
(أواصل العدّ)
1- 2- 6- 8- 14- 24..
- إذا أضفتَ إليها ثلاثين أخرى
ربّما ستنجو
يقول الرجل.
- إذا سدّدت ما عليك فكن مطمئنّاً
لن تبكي امرأتك وحدها
قالت المرأة

***

ثلاثون- تسعة وعشرون- ثمانية وعشرون
سبعة عشر- خمسة- واااااااااااحد
الأيام في يدي حصى
يدي في جيبي عنقود حجارة ملساء
-  هيا نرجم الطائرة
(تقول المرأة)
- تحتاج إلى أيامك 
(يقول الرجل)
أفلت الحجارة في جيبي
دق دق دق دق
لا أعدّها الآن
وأكتفي بصلصلة الساعات والدقائق
دق دق دق دق
-  الشهر ثلاثون
(تقول المرأة)
 - لا تختصر أيّامك
(يقول الرجل)
أقبض الحصى من جديد
أفلتها بهدوء
كي لا تسمع المرأة

***

الطائرات تدنو
الحواجز تبدو
وأنا أهرب دائماً
ليس كالطرائد تماماً
أهرب كذئب
غافله القرويون
وهو متلبّس بطريدته
هكذا يا ليلى
اقتنصت أسبوعاً كاملاً 
وأنا تحت الأنقاض
- سبعة أيام
(قال الرجل)

***

في جيبي الآن ثلاثون يوماً
أنا 
عدّاد الأيّام (الزينة)
أمشّط التقاويم العنيدة
وأعود إلى البيت

كوّة

حيث ينمو العشب
ثمة عظامٌ في الأعماق
عظام موتى، لصوص، عابري سبيل، قوّادين، رعاة، جنود، أطفال، أحصنة، ذئاب، فاتحين، ملوك هاربين، نساء صغيرات، طيور "كما طارت وقعت".

***

- في الصحراء لا يموت أحد.
قال جدّي
- في الصحراء لا يحيا أحد.
قالت "حبّابتي".

***

أنظر بخوف إلى نبتة شوكية
يسمونها "القندريس"
وأرى ذئباً عائداً إلى الحياة
أمدّ يدي برفق
فتعضّني الوردة الشرسة

هل قال الفرزدق "وأطلسَ عسّالٍ"
وهو يمدّ يده إلى شوكة؟

***

في ذلك الربيع
تمدّدت على بساط العشب
"الحرفيش" والخبّازى، والدردار، والسُّعد
تمدّدت بين يدي موتى
جنود قبل 2000 عام
ماتوا بالطاعون
نساء قبل 500 عام فاجأتهنّ صاعقة
خراف راعٍ مسكين
ذبحت دفعة واحدة كرمى لملكٍ عابر
ونظرت إلى الدردار برفق.

***

حين تطير الشرارات البيضاء
(كسّار الزبادي) كما يقول الشّوام
أعرف أن طائراً ما
مات قبل مئات الأعوام
بسهمٍ طائش

***

أنظر إلى السوريين
المتناثرين في المنفى
وأقول:
بعد سنين
ستجّزنا "حشّاشات" عشب غريبة
بأيدي سائقين أفارقة

***

لا أريد أن أكون عشباً بعد الموت
هذه أمنية شعراء سابقين
أريد أن ينمو العشب فوق عظامي
وحين يمرّ جديٌ صغير
سيدغدغ ساعدي برفق
كي أنفضها بهدوء
وأرى المطر

***

مات جدّي 
وأقام فوق تلّ
في نيسان ينمو عشبٌ
فتعرف "حبّابتي"
أنّه اشتهى أن تطبخ له الخبّازى

***

باب الحوش

الأسئلة بذور
الإجابات نبات

***

السنبلة جواب
زهرة البابونج جواب
عود الكرمة جواب
ولكن الإجابات الرائعة
تلك التي تأتي
بعدما يذبل الانتظار
شجرة الجوز مثلاً

***

كنت أقول لطلابي
لا تستعجلوا الجواب
الإجابات السريعة بنات النزق
سؤال الموت مثلاً
لا تجاوبوا عليه بسرعة

***

حين أرى الشجر في البريّة
في شاشات التلفزيون
في الطريق بين حلب ومدينة الباب
أدرك أن أهلنا
كانوا يجيدون انتظار أسئلتهم

***

أكتب هذا
وشجرة من غبار
نبتت بسرعة
بعد سؤال عاجل
سأله صاروخ

***

ولكن كيف لم أفطن
إلى تلك الأسئلة الحلوة
التي نثرتها بناتنا الطيبات
في أصابيح نيسان
نثرتها غير بعيد في التراب
بعد أسابيع
كان "الدبشي" يضحك
الأسئلة الحلوة دائماً
تنبت شجراً حلواً

جدار

الجبال قبور
قلت للشاعر الذي فيَّ
ليس ثمّة مجاز
الجبال قبور قديمة

***

حين أرى الثلج على ظهره
أقول: ها هو الشتاء يموت
وينسج كفنه بهدوء
كي ينام 
حين أرى العشب كذلك
وأنا أودّع نيسان مشفقاً
حين أرى الحصى
حين أرى القرى
عربات الجند
شجيرات العنب
أقمار منتصف الشهر
حين تقف هناك
عند السفح بالضبط

***

الجبال قبور
العالم السفلي للفصول
التي تظنّ أنها ستعيش 
هنا (فوق)
وإلى الأبد

***

وهناك (تحت)
حوار صاخب
بين ربيعٍ نزق 
وصيفٍ بكرشٍ صغير
أو قتال خفيف
بين شتاءٍ مقهور
وربيع كسول
هكذا أقول للكهل الذي فيّ
وأنا أرى
الينابيع تفور في صدر الجبل
أقصد 
الينابيع الطالعة من ذلك القبر

***

حين أرى البراكين
والهواء الكتيم
والذئاب وهي تخرج من كهوفه

***

ثمّة شاعر وكهل
يشربان الشاي كلّ صباح
ويرسمان جبلاً جديداً
كلّما وثب فصل الكتابة
بين كأسيهما

ثمّة باب ونافذة
أنجبا أربعة جدران
وسقفاً

***

في الحرب مات الأولاد
وظلّ الأبوان مكانهما
واقفَين

***

جاءت الريح
لم يأبه الباب
جاء الشتاء
لم تخف النافذة

***

"الخلود زهرةٌ جافّة"
قال العابرون

وفي البعيد
صفّ من الجرّافات
ينظّف الحرب
من آثار المدينة.


طاقة

هكذا أرى البكاء يا غازي
التفاتة الحزن إلى سماء طيّبة
ترجمة دافئة لخيبات مطلقة
خيبات كانت على وشك أن تطير

***

هل رأيت مثلاً بيوتاً تبكي
هذه السنة رأيتها
في الطريق من "فش خابور" إلى البيت
كنت أحمل ست سنين من البعد

***

هناك
في بلادي
كانت البيوت تبكي
بباقي الصيف الذي يوجع الطين
وأسراب المهاجرين

***

اسمع يا غازي
الشعراء يسمعون جيّداً
"نشيد المطر"
ويفهمون غالباً
"منطق الطير"
ولكنّ بكاء البيوت شاقّ
ويحتاج إلى شعراء
تخثّرت طفولتهم بأمّهات مثلومات
وهناك
كنت أهمل مدوّنة الحرب الكبرى
أنسى دبيب الرصاص في الليالي الطويلة
أنسى القبور الجديدة
خالاتي اللاتي فقدن أبناءهنّ
في شتاءاتٍ لم تمطر
كنت أفعل ذلك
لأصغي إلى بكاء البيوت

***

البيت المدمّر 
تفضحه دموعه
تلك الدموع المتحجّرة 
نحو الرصيف
الرصيف الذي صار خدّاً مؤقّتاً
كي لا يذهب الدمع بعيداً.

***

البيت الجاثم هناك
كطللٍ وحيد
سال أهله واحداً تلو الآخر
من عينه الوحيدة 
الباب
قبل أن يأتي اللصوص
ويجفّفوا دمعه.

***

البيت الذي تضحك جدرانه في الصباح
لساكنيه الجدد
ثم يبكي في الليل
وتقسم المرأة التي بـ"نُصّ عقل"
أن الجنّ يرقصون أمامها
ولم تدرِ أن الأمّ
النازحة هناك في برلين
تهدهد للجدران كي تنام.

***

البيت الذي ظلّ على حاله
ولكنّ البيوت التي حوله
هاجرت
وكلّما حاول اللحاق بها
ناشدته جدّتي أن يبقى

***

البيوت التي تماهيت ببكائها
حتّى صرت بيتاً
بعينين متعبتين
ويدين تمتدّان كحديقة

***

منذ عشرين عاماً بالضبط
كنت أسافر
وأغالب البكاء لحظة الوداع
وأنجح في ذلك دائماً
ولكنّني هذا العام يا غازي
هذا العام بالتحديد
بكيت
فمنذ أن صرتُ بيتاً
فتحت النوافذ الصغيرة
لحجارةٍ خضراء
تتنزّه في حضرة البكاء.

جدار ثان

كنّا فخّاراً هشّاً
ولم نكسر بعضنا
ليس لأنّنا متحابّين
بل لأنّنا لم نستطع

***

كنّا جزأي جرّة قديمة
تجاورنا ألف سنة 
قبل أن يفصل بيننا جدول صغير
سنة المطر العظيم 
كنّا وريثَي جنّة قديمة
لم يعد فيها ماء
ولا شجر
ولا عصافير
تبارزنا في الشتاء والصيف
في الخريف أيضاً
بعد المطر الأوّل
في المنعطفات الهشّة للحروب الكبرى
ولكنّنا لم نتكسّر

***

هل كنّا نداري ضعف الصلصال
وطبيعة الحكايات
ونحنُ نصول متشاتمين
في القرى الصغيرة؟

أجل 
لم يكسّر الفخّار بعضه
الفخّار الذي ظلّ هناك
ينجب الأغاني والموت واللعنات
بنشوة الشرق
بالأسئلة القديمة
بالخرافات
على الجسور المرتبكة

***

نحن أبناء الجرّة المهشّمة
نستعين
بالآلات
والسواطير
والطائرات
ونشرات الأخبار
والمحلّلين
وضاربات الودع
كي نتكسّر في نهارٍ طويل
لم يكن غير ليلٍ أبيض.

عليّة

لم يعد ثمّة جنود على الرقعة
الجنود ماتوا تحت وطأة المربعانية
لم يعد غير قلاع كسولة
ووزير خائف
وأحصنة طائشة
سيضعون حجراً آخر أمام الملك
ويقولون: كش
وقد يهرب الملك صوب مربعٍ آمن
ومعه زوجاته وأطفاله
وربّما حاشيته
وقد يتفق اللاعبون على تعادل مؤقت
يؤمّن للرقعة شعوباً ترتع فيها
سوداء
بيضاء
رمادية
بجنود على الحواجز
بقلاع كسولة
بوزراء يرطنون بلغات أخرى

***

ولكن من غير الجنود
يشعل هذه الحرب
في نشرات الأخبار؟

مضافة

بعد قليل سأخرج إلى العمل
كثيرون يخرجون الآن مثلي
بعد ساعة سيخرج أهل عمّان ودمشق 
بعد ساعتين أهل القاهرة وإزمير وصوفيا
بعد ثلاث ساعات سيخرج عمّال مانشستر
في قطارات سريعة
بعد 5 ساعات
6 ساعات
8 ساعات

وكلّما ركضت الشمس نحو النائمين
هربوا نحو باصات النقل وعربات المترو
خائفين 
قلقين
ساخطين
وربّما بقليل من الأمل
وقليل من الشاي
يبتسمون
حين يسمعون جرس المنبه
للمرّة الأخيرة

***

الحرب التي تداوم في انتظام
لم تكن في حاجة إلى جرس المنبّه
ولا إلى الشمس 
تنام أحياناً في أثناء العمل
أو تضحك بسخرية عند إطلاق الرصاص
على محطة المترو
أو حين يجتمع عشرة جنود
كي يعبثوا برجل مدنيّ
في الشارع
قد يحدث هذا
والباصات تحمل الموظّفين
القلقين الساخطين
وقد يراه الرجل المبتسم وهو يقود سيارته
ويسمع نشرة الأخبار

***

في البلاد التي تعمل بتوقيت الحرب
ينظر الناس إلى الشمس
كأيقونة مهيبة
تستثير حزمة من الحنين

جسد ثالث

تقولين ما الجسد؟
لو كنت أعرف
لمسحت اسمكِ من ظاهر يدي
لو كنت أجهل
لرسمت اسمكِ على باطن يدي
الجسد 
ما يمكن أن يمشي معي
ويحس بالبرد عنّي
ويحتضن اسمكِ
كما تحتضن يد المرأة الشابة 
بيضة
تعدّها لابنها المفطوم

***

لكنني 
أحبّ أن أكون جاهلاً
لأضمّ يدي على اسمكِ
كي لا يراه اللصوص
.
.
.
يا بلادي


ممرّ

حين ارتفعت حرارة الشمس
فقدت عينيها
وسالتا بعيداً
فكانت الأرض

***

العجوز التي مات ابنها في الحرب
قالت لي وأنا صغير
ومحموم
الليل سواد العين
والنهار بياضها
ثمّ أسندت رأسي إلى ركبتها
وسقطت دمعة

***

بائع الملح الشابّ قال لي
العين الأخرى
أرض بعيدة
تائهة
سأكتشفها يوماً
ولكنه وصل إلى هولندا
عبر بلمٍ صغير
وبضعة مهرّبين

***

الشمس العمياء تبكي عينيها
حين تختفي في الليل
قالت لي العجوز ذلك
بعدما شفيت من الحمّى
وفي الليل
سقطت دمعة أخرى
من دم

***

الشمس لا ترى
ولكنّها تعرف أين تكون الأرض
بائع الملح كتب لي ذلك في رسالة

***

كثيراً ما أقول لنفسي
العجوز شمسنا البعيدة
ونحن دمعتاها
أنا
وبائع الملح 
صديقا ابنها الشهيد
ولكن
ونحن بعيدان عنها الآن
كيف لها أن تبكي؟


باب الخشب

بيت القشّ يطير
وجدت كثيراً منها في حقول العدس
بيت الطين يذوب
نراقبها خائفين في الشتاء
بيت الشَّعر يُطوى
يبقى مكانه رمادٌ ورائحة هيل
بيت الحجارة يُهدّم
هكذا قالت الطائرة


***

وحده بيت الشِّعر
يحمل العصافير والبدو والفقراء
والسوريين
بيت وحيد أبحث عنه
منذ زمن أبحث
عن بيت يتحدّى الريح والشتاء والقحط والطائرة

***

جدّي يقول البيت للّيل
العصفور يقول البيت للـ"جلاعيط".
السوريون في أحياء المخالفات
يتركون البيوت فجراً للعمل
البيت في دفتر الشاعر 
لا ينام
ثمّة أطفال يوقظونه في المدرسة

***

الشاعر مقاول كبير
قلت هذا 
حين رأيت كتاباً كبيراً
فيه عشرة آلاف بيت

***

مات جدّي 
قبل أن يرى السوريين يرحلون
على ظهور جمالٍ معدنيّة
ويسكنون بيوتاً
من قماش رديء
لم تصلح حتّى للّيل

***

حين تهدأ الريح
ستعود العصافير
إلى الشجرة ذاتها
حين يعود الربيع
سينصب البدو
بيوت الشَّعر ذاتها

***

لكن
حين يموت الشاعر
كم بيتاً من الرثاء 
سيُنصب
في مخيّم صغير؟

*شاعر سوري مقيم في الدوحة.

قصائد اخرى للشاعر

شعر
15 يوليه 2019
اجتماع
25 أغسطس 2015
عروض
27 يناير 2015

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.