}

يوميّات رجل لا يغادرُ غرفته

سمعان خوّام 27 يونيو 2019
يوميات يوميّات رجل لا يغادرُ غرفته
(فادي الشمعـة)
لا يكونُ الحزنُ بالشّفقة. تأخرتُ في الاستيقاظ. عرقٌ أصفر يتصبّبُ من المسامات تلعقهُ بلطف ألسنةٌ وبريةٌ لمخلوقاتٍ شبه شفافة تصدرُ أزيزاً ليس هو بميكانيكي ولا بعضويّ. هو صوت مركبٌ ممغنط يبعثُ على السّكينة. أنا الآن على ظهر السّفينة وقلبي النابض هو محرّكها. بجانبي كلبٌ برأسين يبدو أنّه هنا لحراستي بينما السّفينة تبحر داخل أثلامِ الموج الذي يتحولُ إلى صلصال كلّما اصطدم بجسم السفينة. يخرجُ السّباب من فمه على شكل معادلات فيزيائية. خلفهُ عجوز يحرّر الزئبق الأحمر على شكل فقاعات يحملها طائر النعاس على الريح، يرميها في مهبّ الجهات، فتنفجر في صخب وعويل فوق الضّريح الحي. إنهم، وبالنظر فقط، يأخذون مقاساتي. أنا الثوبُ، أنا الكاهن أبتهلُ للحقد وفي مبخرتي شهوات لا تحصى. ببطء وجلال أمشي على لوحة جسدي، أمشي وأمتصّ اللون. أصعدُ إلى المنصة يرفعني الطيف للغياب، تاركاً خلفي بقعة من العرق. أحمل فتاة صغيرة وحيواناً.  الآلة تجمعنا. الآلة محبة. الآلة عينٌ تمسح الحقد وترمي بنا بين يدي العجّان. نحنُ الضّحية الصاخبة التي تملكت حياة سابقة صلبة. أيتها الفتاة الصغيرة وداعاً. أيّها الحيوان قلبي لك، أنا الآلة. الثلج يتساقط كالتعب المقدس وأنا مشغول بمتابعة مصيري. شفتي تتدلى كبناء مهدوم. الحياة تتمدد هنا والشجر والكواكب وكلاب عجوزة ذهبية وعصفورٌ هو صوتُ الكلّ الغائب. الغبار يمتزج بموجات الصوت ليصنع قشرة تغلّف الجسد الأبدي المسترخي كدودة الأرض. والبشريون محالون الى الانشغال بواجبات مختلفة، فالفرح قادم قادم على شكل مهبل من شعاع.  "إنه يعمل"، صاح العمال. وحلّت فرحة عارمة.
‎‫لا، لم تغضب الطبيعة من المعدن المكدّس في عنابر المصنع. في الخارج مغسلة مهولة ماؤها مغطى بزبد الصابون. هنا اغتسلت أجيال كاملة. هنا، يقال، الهواء أنقى من ضاحية المدينة. أما المرأة العارية التي تحملُ الدلو، فلا أحد يعرف اسمها. في بُعدٍ آخر، تقيسُ المجسّات الارتجاجات الصّادرة عن الحركة اللولبية لرأسي كلبي الحارس، أما الجسد، فكان جامداً. لا يكونُ الحزنُ بالشّفقة.

***     

‫في الطابق الرابع تسكنُ عاملات أجنبيات
‫ألقي عليهن التّحية وتردّن بالمثل
في الطابق الثّاني يشتغلُ طبيبٌ وزوجته وبائع ماكينات خياطة وابنته
‫نستعمل السلّم نفسه
‫نتنفسُ الهواء المقيت نفسه
للبناء موقفُ سيارات تسكنُه شجرةٌ وعائلة من الجرذان طردت الهررة من المكان.
‫في الليلِ لا يمرّ القطار
‫إن نظرتَ للسّماء لن تراها
‫فقط الخياط الّذي يعملُ ليلا أرى الدبابيس تلمعُ في فمه
‫ثم يغلقُ الستارة.

***

‫‪ثمّ وضعَ يدهُ على كتفي، توهجتِ السّماء لبرهة، وراحَ يطالبني بالكلام على انفراد. نعم أنا سجينُ الحالة وأخضعُ لمداعبات المادة الآن... نعم تسارعت الأحداثُ مذ قمتُ باعترافي الأول وكان يوم الخميس الفائت. نعم أحداثٌ باذخة لا بدّ أنّها ستؤثر على مجرى حياتي كاملة.
‫‪كم أنت جميلة. لو كنتُ رساماً لنقلتُ ملامحك بقداسة في لوحةٍ أهبُها هذا العنوان (رقم واحد) لكنني لستُ سوى شاعر (يقتبسُ من كل ما حوله.
حسنا لا أريد أن أبالغَ في التعقّلِ ولكن كان شعرك مشدوداً إلى الخلف. بيد أن خصلة صغيرة كانت نافرة عن الطاعة... تبحث عن ضحية تقدمها للكتائب المقدسة. ‪كانت نافرة... وعبثاً كانت الريح تهاجم الأعشاش النابتة.
الغربان العزيزة تهوي من أعلى السّنديانة إلى قلبِ الغابة
ثم وضع يدهُ على كتفي‪
ثم وضع يدهُ على فمي‪
ثم وضع يده على عنقي
معاناةٌ ووصف،
أعظمُ مريض، أكبرُ خندق، رهابٌ وعازف،
وسيأتي عمالٌ كثر بأشياء عجيبة من غير الممكن تسميتُها...
‫ثم وضعَ يده في يدي
‫‪عزيزي: إنه أنتَ الهتافُ الّذي ينيرُ هاويتي.

 ***

أحبُّ صوتَ خشخشة علبِ الثقاب
‎‫وأتمتمُ ستأتينَ بينما أنقرُ بطرف إصبعي على قمرٍ من تنك استعرته من فيلم متحرك
‎‫لا زلنا عراةً بالأبيض والأسود
‎‫آلافُ الحشرات الكهربائية بدأت تحوم.
‎‫هنا جاءت من المستقبل.
جاءت تحرسُ الذاكرة
كنتُ أجلسُ هنا على ما أظن وكنتُ في تلاطم شاسع.

‎‫طائراتُ الورق بدأت تغيّر اتجاهها
‫أنا هنا وبنفسِ القوة أجلسُ عارياً، أخشخشُ بعلبةِ الثّقاب وأنقرُ تنكة القمر.
‫كان الليلُ هادئاً عدا تلك الحربُ الهائلة التي تفلتُ منها جثثٌ مشتعلةٌ وأرق مستمرّ.

 ***

الساعة الواحدة ظهراً، ضوءُ البلدية في أوجِ بهائه، أعبرُ وحيداً من أوّل الكأس إلى آخره.

*شاعر وفنان تشكيلي لبناني.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.