}

تقمصات تلّة السمك

رشيد إغبارية 22 يونيو 2019
قص تقمصات تلّة السمك
(تمام الأكحل)
أقف على التلّة الصغيرة التي تكاد تراها من شارع البحر، وأحدّق في العتمّة المشعة محاولاً اقتحام أضواء مركز الأبحاث البحري الرابض كشامة كبيرة بشعة على طرفها كأنها تبشّر بقدوم السرطان.
أمام سهل يضاجع البحر بسلاسة من شمال حيفا إلى جنوبها، ترفض تلك الكتلة الترابية كل قوانين الطبيعة وتنبلج معلنة أنها هنا رغم أنف كل بحار العالم التي تتراكم في موجة ترفس أطرافها لترتد خائبة، خيبة لا تشوبها سوى حفنة تراب أخرى تقتنصها عنوة منذ أربعة آلاف عام وستستمر على منوالها إلى أن تنجح يوما ما في دحر هذه التلّة الدخيلة، دحرها تماما.
أراها من شرفة منزلي المستأجر في وادي الجمال، بيت صغير مكوّن من غرفة نوم ومطبخ هو الصالون وشرفة صغيرة ألصقت به لاحقا لتواجه البحر. مررت ببيوت كثيرة قبل أن أقف على الشرفة وأقرّر بشكل نهائي، سأسكن هنا بكل ثمن، وكان لي ذلك.
أقف على الشرفة وأنظر إلى التلّة التي كأنّي أراها لأول مرة، ورغم طبيعتي العملية لم أنجح في كبح جماح ذلك الشعور بالطاقة الإيجابية التي سرت في شراييني، الكارما تحتوي كل حواسّي لأفقد شعوري بالوقت أو أسمع صوت صاحب البيت وهو ينادي عليّ ليسألني عن رأيي. لكن صوتا آخر كان قد طغى عليّ، صوت أنثى أعرفها يأتي من مكانٍ عميق على بعد كيلومتر واحد بالضبط هي المسافة بيني وبين التلّة، صوتها ينادي عليّ. أطلب المفتاح والعقد على الفور، أحضر بقايا الأثاث من عند صديقي وأجلس على الكرسي الهزّاز قبالة ذلك المكان تماما وأحاول تذكر كيف ابتدأت الحكاية.
كنت متزوجا وعندي طفلتان أحدهما عمرها تسع سنوات والصغيرة تبلغ الثالثة، أعمل محاسبا في شركة متوسطة، وذاهب إلى لقاء منسقة تعمل في مجال التوظيف من أجل البحث عن سكرتيرة جديدة... وفجأة.
أقفلت بوابات الضوء كلّها وانتقلت لتشعّ معا قبسا واحدا لا يترك لك حيّزا للتفكير، المفارقة أنني كنت ذاهبا لألتقي بتلك المنسّقة من أجل أمر يخصّ العمل دون أن أعرف من عليّ أن ألتقي، ولكن كل الطرق تؤدي إليها الآن. صافحتها وتكلمتُ كلاما بائدا خرج ميتا من فمي،
شرحت لي ما أردت ثم ذهبت لتكمل عملها، وأنا ما زلت أحاول أن أستوعب أي تفصيلٍ من تفاصيلها الألقة قد أطاح بي، لأكتشف لهول المفاجأة أنني لا أذكر أي شيءٍ تماما. "أوّل الحب"- هكذا يقول من عرف ما يكفي من النساء كي يستخلص تلك العبرة، وأوّل الحب هو أن لا ترى في معشوقتك يدا ونهدا وردفا، فأنت تراها ولا تراها كالمجذوب، بل ترى قطعة واحدة من البلور النقي تستلب لبّك وأنت عابس مشدوه بهذا العبء الإضافي، تقفز إلى ذاكرتك ذكريات أخرى أتت من مكان غير معروف في خلايا الذكريات لديك لتلحّ وتؤكد لك أنكما تملكان ماضيا مشتركا وقد كان وجهها يوما ما إفطارك الصباحي اليومي.
تحاور نفسك أياما إضافية حتى تقنعها بأن ذلك كان مجرد أضغاث أحلام هيأتها لك مخيلاتك على شاكلة امرأة أو ربما هي سراب الحياة البعيدة. أحاول أن أسترجع ذكرياتي مع زوجتي قبل 10 سنوات لأحاول أن أستعيد بعضا من ذلك الشرر الذي تطاير من روحي المشتعلة عندما قبلت يدها أول مرة، أو قبلت جبينها أول مرة، ولكن عبثا تسقط تلك المحاولات أمام بثرة حمراء نتأت في منطقة حساسة لمست شفتيك وأنت تقبل هناك. سحقا لكلّ تلك التفاصيل التي تحيك مؤامرتها ضدك كي تسقط بالتقادم ما يسمّى "أول الحب". مرّ عام نسيت فيه كل التقاطعات بين واقعي وتهيؤاتي.
ثم ظهرت فجأة كما في المرة الأولى، وهذه المرة بتنّورة سوداء تجلس قبالتي تماما "تكشف عن فخذٍ وتغطي الآخر ستر الله عليها وعلينا بالذيل"، جبنْت كعادتي وتقهقرت كي أرى ولا أُرى وأشعلت من جديد شريط أحلام اليقظة وبدأت أكتشف ربما بعض التفاصيل التي اخترقت كل وعيي لتكشف عورات عقلي الباطن وتطوعه ليعود إلى طبيعته كـ"هوموسابينس". لماذا يا ترى يصعب عليّ أن أرى إنسانا كاملا ذا وعي وكيان وطاقات إبداعية، لأبدل كل ذلك برغبتي أن أكون "معه". هل يستحق ذلك الهوس أن أضحي بكل ما لدي؟، كيف ينشأ الحب؟ وكيف ينتهي؟ هل حقا ستذكرني إذا بادرت التحية؟ وكيف مرت ساعة دون أن أنتبه إلى ذلك الشخص الذي يقبل جبينها كل ما نهض!
أتخيلها تأتي إليّ وفي الخلفية صوت مقطوعة سنتوريني للعازف ياني، تدخل وشعرها يتطاير وهالة الضوء ما زالت تلازمها وتشع حولها، أصافحها "أستلمها" كما يستلم المسلم الحجر الأسود، وعندما تبدأ بالكلام تتحول الموسيقى إلى "واق واق واق واق"، فها هي تتحدث عن غباء مصففة الشعر، وكيف قامت بتسريحه عكس ما طلبت منها، وأنا محدق بهذا الشعر المنسدل الرائع على كتفيها باحثا عن تلك المأساة الملحمية التي تتحدث عنها بهذه الحرارة، يتوقف الحلم لأقرر إعادة الشريط إلى الوراء فأتخيلها صامتة هذه المرة.
في المرّة الثالثة كنت أحاول أن أصلح ما أفسده الدهر بمسيرتي الثابتة على الشاطئ لأصل على قمة التلّة، وأواجه البحر متقمصاً غزاة مجهولين أعماهم غرورهم فوقفوا هناك مثلي تماماً يعتقدون أن هذا البحر لهم!، وهناك تحديداً أجدها جالسة تتأمل البحر.
يأتي شخص آخر ويتقمصّني وأنا أصبح مجرد ذبابة على الحائط تسترق السمع لذلك المونولوج العجيب الذي خرج مني. دون أن تستطيع التأثير عليها:
- أنت شراعي، رايتي ومرساتي، ماضيّ ومستقبلي، مينائي ومسقط رأسي، فاعذري لهذه الروح خواءها عندما تبتعد عن وطنها. لقد كنت أبحث عنك وها قد وجدتك لأبدأ الآن الفصل الناقص من حياتي.
- إنت جدّي ولا بتمزح؟
- كيف يمزح من ينتظر كل هذه المدّة كي يقفل اللغز ويعود إلى رحم البداية الأولى. دعينا نكمل ما أسقط من قصتنا.
لم تفهمني كما لم أفهم ما قلت أيضا، انتهى ذلك الاحتلال المؤقت لكياني لأعود لوعيي فتقفز
ساعة التوتّر بعيدا فوق أقصى ما يمكنني احتماله، لأسقط مغشيا علي، فأستيقظ في المستشفى وزوجتي بجانبي على جبينها ألف علامة سؤال.
لقد بدأت عملية التحول لأصبح شخصا آخر، تدهورت علاقتي بزوجتي سريعا بعد أن واظبت على الغزل المباشر وغيره منها حيث كنت أكنيها دوما بـ"رايتي ومرساتي"، ولم تنجح كل محاولاتي سوى بتفكيك علاقتها بخطيبها، فالشرقي أكثر ما يكره هو المزاحمة على ما يبتغي ولو كانت على ما لا يستحق، دون أن أنجح بإشعال أي شيء لديها، قالت لي مرة:
- مش رح يزبط، حتى لو حبيتك، علاقتنا محكومة بالفشل، هناك سبب واحد لكي نكون معا وهناك ألف سبب ضد ذلك.
- أحقّا؟ إذن يكفيني شرف المحاولة.
عبثا حاول البعض استدراجي لإصلاح علاقتي مع زوجتي ولو من أجل ابنتَي، يريدونك أن تبحث عن الجوهرة داخلك ولكن النفس البشرية ليست أكثر من بصلة، كلما نزعت غلافا زادت نتانة الرائحة حتى تقشر الطبقة الأخيرة فلا تجد شيئا خلفها، لا أعرف أين تدهورت العلاقة من علاقات حميمية تمتد ثلاث مرات طوال الليلة بينها شوقُ لا ينضب، إلى حفظ مسافة آمنة منها مع علاقة ميكانيكية كل ثلاثة أشهر تستمر أقل من ثلاث دقائق، أتذكر كل هذا بينما يلحون علي فأغنّي لهم: "لاموني اللي غاروا منّي قالوا لي وش عاجبك فيها، جاوبت اللي جهلوا فني خذو عيني شوفو فيها".
وكما ابتدأ الكلام بيننا انتهى الموضوع هناك، تطورت علاقتنا من طرفها لتسمح لنفسها لقائي أحيانا لربما رأفة بي، جلسنا في مكاننا المعتاد أعلى التلة، وقالت:
- لقد ابتدأت أصدق أننا التقينا مرة قبل آلاف السنين، وأن الكون قد أصدر مرة "كوشانا" يربطنا، ولكن يبدو أيضا أن هناك قوة مضادة مستعدة لتدميرنا معا حالما نتوحّد، لا أعرف كيف أفسّر لك ذلك، ولذلك من أجلي ومن أجلك قررت أن أهاجر.
وبكل بساطة تركتني وذهبت.
غرقت في حدادي على موتها الذي شعرت به قد حدث فعلا، وفي اليوم السنوي لما بعد الحب وبينما أنا غارق في حزني عاد صوتها ليناديني من الشرفة، عميقا ثابتا، وصلت إلى ذات المكان الذي كنا نجلس فيه، وطلب مني صوتها أن أحفر، فالحفر هنا توقف من قبل دولة لا تعترف بأي "شجرة سقطت في الغابة" لا علاقة لها بدينهم، خاصّة إذا كان ذلك قبل نبيهم المزعوم بألف عام، بدأت الحفر بيدي العاريتين، ثم ذهبت واقتنيت أدوات حفر وتجهزت لبداية الحفر بعد منتصف الليل لأتجاوز الشكوك.
وبدأت طبقات التاريخ تتكشف لي، وبدأت أرى المنزل القائم هنا، وما إن لمست واحدا من أحجاره حتى تذكرت أن هذا كان بيتي، أكملت الحفر لتظهر لي جمجمة بشرية، ما إن حملتها حتى فهمت ما لم أفهمه حتى الآن، لقد كنّت صيادا في حياة أخرى، وسكنت هنا تحديدا، وأحببتها تحديدا حيث كانت "شراعي، رايتي ومرساتي"، حيث خطفتها من أهلها أسوة بالعادة فامتلكت كل ما أردت من دنياي.
هو أمر مفروغ منه أننا بالنتيجة نخبئ خلف أقنعة الحضارة البشرية حيوانات شرسة، تلهث خلف شبقها وقَرَمِها فتنتج من أجلها الكثير من المسميّات الفارغة والعوائق والطقوس لمجرد أن نصدق كذبتنا أننا نمارس تلك الأمور بشكل مختلف، ليصبح اختلافنا تشويها لأكثر الأمور بساطة، ولكن من المفروغ منه أيضا أننا نملك قدرة إضافية تجعل قدرتنا سواء على البناء أو الهدم خرافية فنراوح تارة بين تعمير الكواكب الأخرى وبين تدمير كوكبنا وفقا لمزاج "ذكور ألفا" التي بيننا.
وفي تلك الفترة قررّ الغزاة من الغرب استكشاف منطقتنا، فلفظ البحر قواربهم إلى بيتي بينما كنت أصطاد السمك، فوجدوا جوهرتي وبلورتي ليفعلوا ما فعلوا بها ومن ثمّ يقتلوها، وعندما عدت كان جسدها باردا كبرودة البحر الذي طالما فشل في قبول التحدي له أن يلمس أخمص قدمي، فأرسل لي هؤلاء الغزاة انتقاما، أما "أنا" فقد خرجت إلى قاربي وأبحرت غربا في بحر هائج ولم أعد.

*قاص من حيفا - فلسطين 48.

مقالات اخرى للكاتب

قص
22 يونيو 2019

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.