}

الأرملة وثياب الحب

قص الأرملة وثياب الحب
(راسل درايسديل)
خَيَالُها على صوت انهمار الماء، في هذه اللحظة بالذات، يبدو مثل مخمورٍ يترنح متأرجحاً داخل رأسها، على أرجوحة أحزانها. خيالُها ينوس الآن كبندول ساعة قديمة، بين هذه الأشجار أمام عينيها، وأطياف أربعة طلاب أمام عينيها أيضاً.
تجولت ببطءٍ منحنية الظهر بين أشجار الفسحة السماوية في بيتها، وبيدها خرطوم ماء، تسقي من خلاله الأشجار، واحدة تلو الأخرى، تنهدت كعادتها كلما تذكرتهم على شكل صور تتناثر في فضاء خيالها.
مضى وقت طويل على غيابهم، الطلاب الأربعة الذين استأجروا غرفة الطابق العلوي، في بيت هذه الأرملة، منذ سنوات قليلة، عندما جاؤوا للدراسة في جامعة العاصمة، واهتدوا إلى بيتها في أزقة المدينة القديمة، عن طريق بعض المعارف، عاشوا عندها أياماً جميلة، بعد أن كانت حياتها لعقدين من الزمن بلا نكهة، بعد وفاة زوجها في حادث سير منذ عقدين تقريباً.
كانت بعد اختفائهم قد أطلقت أسماءهم على أشجار بيتها، باستثناء شجرة الكستناء، التي كانوا يتسلقونها إلى الأعلى بشغب جميل ليصلوا إلى غرفتهم، أو ينزلوا على أغصانها من الأعلى إلى فسحة البيت. حال شجرة الكستناء كانت جيدة، لكن الأشجار التي أطلقت عليها أسماء الطلاب، كانت حالها سيئة، على الرغم من أنها تسقيها كل يوم، ماءً ودعاء.
رجعوا إلى مدنهم وقراهم البعيدة مطلع الصيف الماضي، مع بداية العطلة الجامعية، لكن، انتهت أشهر الصيف ولم يرجع أحد منهم، وانتصف الشتاء، وانتهى الفصل الدراسي الأول وبدأ الثاني، ولم يطرق بابها أحدهم، اختفوا ولم يرجعوا، مع توسع رقعة الحرب خلال الأشهر الأخيرة لتشمل البلاد كلها.
في ازدحام ذكرياتها أمام الأشجار، تذكرت يوم رتبت غرفتهم كعادتها كل بضعة أيام خلال محاضراتهم الجامعية، فعثرت تحت السرير على قنينة خمر، تأكدت في سرها آنذاك أنها لأكبرهم عمراً، سألته جانباً "لماذا تشرب؟" أجابها وهو يصعد الدرج بخجل مسرعاً إلى الغرفة "أشرب لأعرف كيف أحكي مع تلك الفتاة التي أحبها في الجامعة".
الأرملة جلست بتعب تحت شجرة الكستناء، أشعلت لنفسها سيجارة وعبّت منها، لم تتوقع عندما
ألحت عليها جارتها آنذاك لتُؤجر الغرفة العلوية، أن أربعة شباب في مقتبل العمر سوف يأتون إلى هنا، ويعيشون فيها حياتهم الجامعية، ويصبحون بصخبهم الجميل جزءاً من حياتها، ومن أمسياتها اليومية، صاروا مع مرور الزمن أولادها الذين لم تنجبهم، لم تتعرف إلى أمهاتهم المتناثرات في جهات البلاد، لكنها كانت أماً ثانية لهم، عاشت معهم أياماً لا تنسى، عاشت مع فوضاهم وشجاراتهم وضحكاتهم، عاشت مع قلقهم في الامتحانات، مع صدى ضحكاتهم في الأماسي الهادئة، ولطالما ضحكت من كلّ قلبها بسبب المواقف الطريفة التي تحدث معهم، أو التي كانوا  يفتعلونها  بين بعضهم، وأحياناً معها، على سبيل المحبة، وجنون المراهقين.
تأكدت في ليلة قديمة أنهم هدية من السماء، كتعويض لها عن وحدتها، كاعتذار من رحمها المحال على التقاعد منذ صباها.
اعتنت بهم، طبخت لهم وغسلت ثيابهم، سهروا معاً تحت أغصان هذه الأشجار، وهم أيضاً.. تجمعوا مرات كثيرة حول سريرها، كلما ساءت صحتها، ساعدوها في مشاويرها إلى السوق، أو في إجراء إصلاحات معينة بالبيت، وأشياء أخرى. كانوا مثل أولادها الذين حرمتها الأقدار من إنجابهم، كانت أمهم التي اختصرت في شخصيتها كل أمهاتهم، خصوصاً عندما يوجه مرض طارئ سهامه إلى صدر أحدهم، في ساحة الشتاء.
تبادلوا معها العناية والحنان وأطباق الحلويات مع مرور الأيام، والآن صارت وحيدة من دونهم، وغيابهم الطويل تحول في الأيام الأخيرة إلى مرض لا شفاء منه بالنسبة لها، إلا برجوعهم سالمين، من جهاتهم المختلفة في هذه البلاد التي حاصرتها الحرب، وحده رجوعهم كان الدواء الوحيد لمخاوفها الحالية، التي أنهكت روحها وجسدها.
تنهدت وهي تتمنى في سرها ألا تكون الحرب قد خطفتهم من أمكنتهم، كما فعلت مع الآلاف من الناس.
أغلقت صنبور الماء، وفي المطبخ صنعت فنجان قهوة، أخذته لترجع وتجلس على كرسي في فسحة البيت بين الأشجار، شربت قهوتها مع سيجارة، والكراسي الفارغة متناثرة أمامها، تخيلتهم على هذه الكراسي، كما كانوا يجلسون هنا، معها ومع قهوتها كل مساء، بعد يوم دراسي طويل في الجامعة، تخيلت كل واحد منهم جالساً بطريقته الخاصة على كرسيه، يتبادلون الفكاهات أمامها، سرعان ما يتشاجرون، ثم يعلو صراخهم على بعض، قبل أن يرجعوا إلى فكاهاتهم، وكأن شيئاً سيئاً لم يحدث.. راقبت الكراسي الفارغة مطولاً، وتنهدت.
عندما انتهى فنجان قهوتها نهضت فشعرت بألمٍ في جسدها، أحست أنها قد هرمت، كانت الشمس قد غربت عندما صعدت الأرملة الدرجات رويداً إلى الغرفة العلوية، دخلتها، مثل من يدخل مكاناً يحبه، ما تزال أشياء الغرفة كما هي عندما تركوها، بعد أن رتبتها لهم، جلست على الأريكة، شعرت أن أشياء الغرفة مثلها تماماً، قد اشتاقت لأولئك الشبان. الأسرة، الطاولة، الخزائن، الكتب، كلها، مثلها، أرامل هرمة تنظر عودة أولئك الطلاب.
أشعلت سيجارة أخرى ويدها تتسلل إلى خلفها قليلاً، لتشغل المذياع المركون على كتف الأريكة، عَلَا في الغرفة صوت أغنية لطيفة، تذكرت عندما كانوا يدعونها لتسهر هنا، وتتناول الحلويات التي يجلبونها من بيوتهم، وقد صنعتها أمهاتهم، تذكرت تلك السهرة القديمة، محالٌ أن تنساها، كانوا قد حازوا على علامات جيدة في الامتحانات، وسعادتهم كانت عظيمة، احتفلوا ليلتها
واشتروا لها هدية، رقصوا وغنوا معاً بجنون مضحك أمامها هنا، على صدى أغاني المذياع، قبل أن يجبروها بعد منتصف الليل، على أن ترقص معهم، وكأنها صبية.
ليالٍ طويلة في غيابهم وهي تسأل نفسها الأسئلة ذاتها التي ترددها الآن فوق الأريكة، بوجه شاحب وقلب مضطرب الخفقات.
أين هم الآن؟ هل أصيبوا بخطر؟ هل قتلوا أو جرحوا؟ هل اعتقلوا؟ هل فروا خارج البلاد؟ لماذا لا يتصل أحدٌ منهم؟
تكاد الأسئلة أن تخنقها وهي تعصر رقبتها بيدٍ غير مرئية، رأسها يهبط متعباً على ركبتيها لتستمر أغاني المذياع بدغدغة روحها، من مذياعهم هذا سمعت دائماً في مساءات كثيرة، أغاني ما كان لها أن تعرفها.
عندما رفعت الأرملة رأسها نظرت مصادفة في المرآة الكبيرة أمامها جانب خزانة الطلاب، لم تشاهد نفسها في المرآة، إنما شاهدت على زجاج المرآة أولئك الشبان الأربعة، جنباً إلى جنب، على وجه كل واحدٍ منهم ابتسامته الخاصة به، مرتدين أطقم ثيابٍ متشابهة، هي ذاتها أطقم ثياب الحب.
تذكرت ثياب الحب، أسرعت إلى الخزانتين المتجاورتين للطلاب، وخلف كل باب منهما ثياب لاثنين من الطلاب، فتحت البابين، ما تزال الثياب كما هي منذ أشهر، عندما رتبتها للمرة الأخيرة، عبثت هنا وهناك بيديها المضطربتين، على الرفوف وبين الثياب المعلقة، إلى أن استطاعت أن تجمع قطع طقم ثياب الحب، ثم مددت بروية هذه الثياب، بشكلٍ متكامل، فوق بعضها البعض على الأريكة.. قبل أن تجلس جانبها وتمرر أصابعها بحنان على القماش.
المعطف كان لواحد من الطلاب، فوقه القبعة والشال كانا للطالب الثاني، عليه القميص وكان للطالب الثالث، وأسفله البنطال والحذاء، وكانا للطالب الرابع.
انفطر قلبها وهي تتذكر كيف أن كل طالب منهم عندما كان قدره يتزحلق، فيسقط في هوى زميلة له في الجامعة، وما إن ينجح في أخذ موعد معها، في مشوارٍ رومانسي مسائي إلى مقاهي أزقة الحارات القديمة في العاصمة، حتى يسرع إلى الغرفة حيث يعمل رفاقُه في ترتيب شكله، والتبرع بأفضل ما لديهم من ثياب جميلة، ونصائح عاطفية مهمة لصديقهم، في سبيل نجاح مشوار الحب لدى رفيقهم، كان كل واحد منهم يتفوّق على الآخرين بقطعة ثياب معينة، يجمعونها مع بعض لتصير طقم ثياب الحب، لبسوه مرات عديدة، في مناسبات كثيرة للحب، ارتداه كل واحد منهم بحسب حظه في الحب، فما إن يداهم الحب أحدهم، وينجح بأخذ موعدٍ مع فتاة حلوة، حتى يسرع إلى الغرفة العلوية ليأخذ قطع الثياب هذه من رفاقه، ويرتديها
بمساعدتهم.
اكتشفت الأرملة قصة ثياب الحب، بعد تكرّر هذه الحالة مع الطلاب في أوقات متقاربة، صارت كلما شاهدت أحدهم في المساءات ينزل الأدراج مرتدياً هذه الثياب بالذات، تعرف أنه ذاهب في مشوار مع الحب، ترمق خجله اللطيف ثم تغمزه بعينها مع ابتسامة خبيثة، بعض الجارات في الزقاق تناقلن سرّ هذا الطقم خلال أحاديثهن الصباحية، حتى وصل السر إلى الرجل الحانوتي العجوز، وكلهم كانوا يبتسمون عندما يشاهدون أحد الطلاب مرتدياً طقم ثياب الحب، في الزقاق، أما الحانوتي فيسرع إليه ليخرج علبة عطر صغيرة من جيبه، يعطّر الطالب وهو يضحك، ثمّ يصيح به قبل أن يدفعه إلى الأمام: كان ينقصك رشة عطر فقط أيها الأنيق، هيا، اذهب إلى الحب، وبَيّضْ وجهنا أمامه أيها الوغد..
يمضي الطالب متعثراً في الزقاق إلى الحب، أما الرجل العجوز فيصيح مجدداً بجارة له، هي الأخرى عجوز: إن أحببتني سوف أدعوك إلى مشوارٍ رومانسي، وأستعير من الشباب طقم الثياب نفسه..
تعلو ضحكات العجوز وجارته والأرملة وبقية الجيران في زقاقهم.
ارتداؤهم بشكل فردي لثياب الحب لم يكن دائماً، إنما حسب حظهم في الحب، أحياناً تمر أشهر دون أن يرتدي أحدهم ثياب الحب.
مسحت مطولاً بكفها على الأريكة فوق قماش الثياب وهي تتنهد، مالت برأسها إلى المرآة، شاهدتهم مجدداً، في المرآة، الطلاب الأربعة معاً، مرتدين لطقم ثياب الحب ذاته، بدت لها المرآة وكأنها صورة تذكارية ضخمة لأولئك الطلاب، معاً بثياب الحب.
شعرت بالتعب يتسلق جسدها، وكأنه مراهق مشاغب وجسدها شجرة يلهو عليها، مالت قليلاً لتحط رأسها على كتف الأريكة ونامت بهدوءٍ قليلاً، جانب ثياب الحب، وجانب أغاني المذياع.
عندما استيقظت بعد منتصف الليل، كان مصباح الغرفة منطفئاً، بسبب عطل أصابه، تلفتت
حولها تتأمل الأشياء بفزع، ومنسوب الخوف يرتفع داخل روحها رويداً، ساعدها ضوء القمر الخافت وهو يتسلل من النافذة، على النظر إلى المرآة، لم تشاهد عليها الطلاب كما كانوا عليها قبل نومها، شاهدت نفسها مرمية مثل جثة في الفراغ، شعرت أن شيئاً ما قد حدث، شيء مخيف، خوف غامض هز كيانها في العتمة، انتبهت لعدم وجود طقم الثياب على الأريكة، استغربت كثيراً، مشت في الغرفة وقد فقدت صوابها. بعثرت الأشياء من حولها بحثاً عن طقم الثياب، الذي اختفى من جانبها.
تناهى لأذنها صوت موسيقى تأتي من بعيد، أصغت بهدوء، استدارت إلى النافذة، ثمّ هرولت نحوها، شهقت وهي تلمح في الأسفل، أمام بيتها في الزقاق بين أبواب الجيران، طقم ثياب الحب وهو يتمايل ويرقص منتشياً، وكأن روح إنسان تسكنه وتحركه.
انتبه الشبح غير المرئي الذي يرتدي ثياب الحب لوجودها على النافذة، كان ضوء القمر شديداً، رفع ساعد المعطف وأشار للأرملة أن تنضم إليه في رقصته، أسرعت لتقفز إليه من النافذة، بينما أغاني المذياع تسرع هي الأخرى، لتقفز خلفها مثل كلاب وفية لصاحبها، سقطت الأرملة في حضن الشبح غير المرئي القابع في طقم الثياب، وخلفها تماماً، سقطت الأغاني وتحطمت على بلاط الزقاق، وكأنها زجاج.
في حضن الشبح غير المرئي، شمت الأرملة رائحة عطر الحانوتي، مختلطة برائحة خمرٍ مختصٍ بحل عقدة لسان المراهقين في الحب.
رقصا معاً، بين حطام الأغاني، في رقصة ما بعد منتصف الليل، شعرت أنها لا ترقص فقط، وإنما تحلق عالياً فوق البيوت القديمة لهذه الأزقة، وكأن وزنها صار بوزن الريشة، بدت لنفسها مثل الفراشة، انتشت كثيراً وهي تغمض عينيها، بينما الشبح يُرقصها بشكلٍ سحر روحها.
في الليل، خلال الرقصة، كانت كل الأشياء حولهما سعيدة، باستثناء شجرة الكستناء، خلف ذلك الجدار وفي العتمة.. انحنت أغصانها تباعاً.
في الصباح الباكر، اقترب منها الحانوتي العجوز وبعض الجيران بصمت، انحنوا عليها معاً، مسح الحانوتي بكفه على عينيّ الأرملة، وقد تخثرت الدماء على وجهها، ذرفوا دموعهم بصمت من فوق الجثة المرمية على بلاط الزقاق، بكوا على الجثة وهي تحضن إلى جسدها ثياب الحب.

(إسطنبول 14/5/2019).

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.