}

غربة الحمام

عارف حمزة 9 مايو 2019
1
منذُ الصغر تلقيتُ تحذيراً من التعلّق بالحمام، وكذلك بلعب كرة القدم. كنتُ لاعباً في فريق صغار النادي المحلي في مدينتي الحسكة، عندما جاء أخي الكبير وقال لي: "ستصبحُ بلا عمل، أو ستعمل في وظائف تافهة إذا تابعتَ لعب كرة القدم. عليكَ أن تتفوّق في الدراسة وتصبح طبيباً أو مهندساً أو قاضياً". وهكذا تركتُ مكاني في دفاعات ذلك النادي إلى الأبد.
التحذير الثاني، من أجل عدم تعلّقي بالحمام، جاء خلال زيارة لي لسوق الحمام. كانت السوق تُفتتح كلّ يوم جمعة.
خلف سوق الخضار كانت سوق السمك برائحتها القويّة والمياه الوسخة التي كانت تسيل في الشارع وتلمع بسبب لمعان حراشف السمك. خلف سوق السمك ذاك كانت سوق الحمام القريبة من نهر الخابور الذي جفّ منذ سنوات.
كنتُ في الخامسة عشرة من عمري عندما ذهبتُ مع صديقي إلى سوق السمك، ومن هناك ذهبنا إلى سوق الحمام. جذبنا إلى هناك صوت الباعة القويّ وكذلك هديل الحمام وتغريد البلابل والحساسين وطيور أخرى مختلفة، كانت تُباع قريباً من هناك، بسبب وجود أناس كثيرين يهتمّون بالشراء من سوق الحمام. فقد كانت هذه السوق، في بداية الأمر، خاصة بالحمام فقط، ثمّ بدأت تأتي طيور أخرى برفقة تجّارها عاماً بعد آخر، وصارت سوقاً مختلطة بأصوات البشر والطيور، تحت شمس مدينتي الحارّة وغبارها.
في ذلك اليوم الحار كنّا نتجوّل أنا وصديقي بين صناديق الطيور مختلفة الألوان والأحجام
والأصوات. كان صديقي يهتمّ بطيري "العاشق والمعشوق" اللذين لا يستطيعان الابتعاد عن بعضهما. "العشق" كان رابطاً قويّاً ووحيداً بينهما، لذلك صنعوا اسميهما من مفردة العشق. كان اسم العاشق وكذلك اسم المعشوق مثيرين. كانا اسمين مميزين لهما مع ألوانهما الصارخة وزعيق كلّ زوجين، حُبّاً في الآخر، يهزُّ تلك الأقفاص.
لم يكن هناك طائر محدّد يُثير فضولي على الدوام؛ بل كانت كل الطيور بالنسبة لي كائنات مثيرة وقريبة من القلب. كانت تبدو هشّة وضعيفة ومع ذلك تمتلك جناحين قوييّن ومناقير حادة وأصواتاً عذبة. كانت مُنهكة تحت شمس حزيران التي تصل درجة الحرارة فيه إلى 45 درجة مئويّة في الظلّ. كانت السوق تبدأ في السادسة والنصف صباحاً، ووقتها يكون الطقس منعشاً، ولكن كلّما ارتفعت الشمس وارتفعت الحرارة تشعر بأنّ الطيور الضعيفة والمسجونة في أقفاص حديديّة في سوق الحمام تُشوى على نار بطيئة. تبدو مُنهكة ومُتعبة وترغب في أن يشتريها أحدٌ ما لكي يُخرجها من هذا الجحيم المتواصل مرّة في كلّ أسبوع.
كنتُ أستمتعُ بالأسماء التي يُطلقها كشّاشو الحمام على حماماتهم، ولا أدري إن كانت هذه الأسماء هي نفسها في المدن الأخرى أو الدول الأخرى، فكان هناك الأورفلّي والمجري والإسرائيلي والجقجلّي والهندي والمشمشي والنحاسي والمسوّد والكشميري والتفاحي والشامي والإنكليزي والمالطي... وكانت الأسعار تختلف بحسب النوع الذي يستفيض البائع في الحديث عن مزاياه، وكأنّه يتحدث عن شيء صنعهُ بنفسه. وكان هذا صحيحاً في تلك الحالة التي كان يتدخّلُ كشّاشُ الحمام في الجينات الوراثيّة لحمامه. كشّاش الحمام، الذي عادة ما يكون فاشلاً دراسيّاً في نظر عائلته، وفي نظر الناس، كان يقوم بتجارب علميّة كبيرة ويصبر عليها حتى تتضح نتائجها، فكان يضع في قفص واحد، على سبيل المثال، ذكراً، من نوع معيّن مكتملا في جماله ولكن تنقصه ميّزة ما، مع أنثى من نوع آخر تمتلك تلك الميّزة، وينتظر أن يلقّحها، ثمّ ينتظر النتائج عندما تفقس البيوض... وهكذا كان يتمّ صنع أنواع جديدة تُبهر زملاءَه الآخرين في سوق الحمام.
كنّا نتمشّى أنا وصديقي بين زحام البشر والطيور والروائح المختلفة للأجساد عندما ارتفعت
أصوات قريبة منّا. يبدو أنّ أحد الكشّاشين قد عثر على حمامتين ضائعتين منه، منذ أشهر، لدى كشّاش آخر كان يبيعهما في السوق، ويبدو أنّهما يتشاجران، وفي اللحظة التي وصلنا فيها أنا وصديقي إلى مكان تجمهر الناس، واستطعنا رؤية العراك، كان أحدهما يطعن الآخر بسكين حادة. لم يمت الشخص الجريح، ولكننّي كنتُ أفكّر بذلك المثل الشعبيّ عندنا، والذي يقول "قلبه مثل الحمامة". وهذا المثل يُطلق في وصف الشخص الرقيق والطيّب..
كان كشّاش الحمام شخصاً مظلوماً عندنا، كان دائم الشجار مع عائلته التي قد تشعر بالعار بسبب مهنته "الوضيعة" في نظرهم ونظر الناس. كانت الناس تقول بأنّ وصف "كشّاش" جاء من اللغة العامية والتي تعني "الكذّاب"، وليس من وصف أنّه "يكشّ" الحمام أي يُطيّرها في حلقاتٍ تجوب السماء المحيطة ببيت صاحبها الكشّاش. كان الظلم يتعدّى وصفه بالكاذب، ليصل إلى القول بأنّ شهادته لا تُقبل في المحاكم، مهما كانت تلك الشهادة مُؤثّرة في مجرى دعوى ما. وهذا الكلام غير صحيح؛ فلم توجد أيّة مادة في قوانيننا تنصّ على ذلك، ولكنّه من تأليف الوهم الشعبيّ في ظلم أشخاص بريئين. ثمّ وصل الظلم إلى أقصى حالاته عندما ردّدوا بأنّ لا أحد يقبل تزويج ابنته من كشّاش حمام!!

2
لطالما فكّرتُ هنا في ألمانيا لو أنّ حيواناتنا وطيورنا تستطيع المجيء والعيش في هذه البلاد الأوروبيّة المليئة بالغابات والأنهار والجو النقيّ، خاصّة أنّ الناس هنا ليس لديهم أقفاص في البيوت كي يُربّوا طيوراً في زنازين إنفراديّة ضيّقة. لا أحد يسجن الطيور عن الغابات والمدى الواسع للطيران، بل تتابع الطيور حياتها في الرخاء وتموتُ في النهاية من شدّة السمنة أو عدم وجود الأخطار المُحدقة. لو أنّ طيورَنا هنا لعاشت تلك الحياة الطويلة مع الغناء الطويل طوال النهارات المُملّة هنا في أوروبا الخضراء.
تذكّرتُ هنا "جوناثان" بطل رواية "الحمامة" للكاتب الألماني باتريك زوسكند. هذه الرواية القصيرة قرأتُها باللغة العربيّة في بلدي سوريّة، إضافة لبقيّة كتب باتريك زوسكند القليلة على أيّة حال. ولكنّني تذكّرتُ الرواية هنا؛ خاصة ذلك المقطع الذي كتبه زوسكند في اللحظة التي همّ فيها "جوناثان" في مغادرة غرفته إلى الحمام المشترك بسكّان الطابق الذي يسكن فيه، وواجه حمامة أمام بابه فشعر بالرعب، وفقد توازنه، قبل أن يُغلق باب الغرفة ليعودَ مذعوراً إلى داخل غرفته. كتب زوسكند "... إنّكَ لن تستطيع قتلها (يا جوناثان)، ولكن إذا تركْتَها حيّة فإنّك لن تتمكّن من العيش معها، لم يحدث أبداً أن تمكّن أي إنسان من العيش في البيت نفسه الذي تعيش فيه حمامة، فالحمامة ترفرف وتطير في كلّ الإتجاهات. تُخرجُ مخالبها وتنشبها في العينين. إنّها تتبرّز بدون انقطاع وتنشر الجراثيم المُهلكة وفيروسات مرض الإلتهاب السّحائي. فالحمامة لا تبقى أبداً وحيدة، إنّها تجتذب حمامات أخرى، فتتجامع وتتكاثر بسرعة مذهلة، وتجد نفسَك عندئذ محاصراً بجيش من الحمام، بحيث لن تتمكّن من مغادرة غرفتك أبداً، فتموتُ إما جوعاً أو غرقاً ببولك وبرازكَ، أو ترمي نفسك من النافذة فتسقط على الرصيف وتصبح هشيماً".
تذكرتُ هذه الرواية هنا، عندما قرأتها منذ سنوات طويلة هناك، وفكّرتُ في الرعب المُنتشر بين الناس بسبب كائن هشّ ولطيف مثل الحمام. ثمّ فكّرت بباتريك زوسكند الذي كان سيجمع

بسهولة، بسبب هذه الرواية، الكثير من الأعداء من كشّاشي الحمام عندنا، الذين كانوا سيحرقون نسخاً كثيرة من الرواية هناك، في الغرف التي بنوها على أسطح البيوت لأسراب حمامهم، كانوا سيحرقونها كي يتدفّأ الحمام في شتاء مدينتي البارد جداً.
قال لي جاري كشّاش الحمام في إحدى المرّات "عندما تشتري حمامة أو عدّة حمامات وأردْتَ أن تُطيّرها، فعليك أن تقصّ حفرتي الأنف لدى كلّ واحدة منها"!
ــ ولكن لماذا؟ سألته.
ــ الرائحة. الحمام يعرف الأماكن من خلال الرائحة، وهو يعرف طريق العودة إلى صاحبه القديم من خلال فتحتي أنفه. يرتفع طائر الحمام في السماء، ثمّ يُغلق عينيه ويفتح فتحتي أنفه، ويعود هكذا إلى موطنه الأوّل، أي إلى الشخص الذي باعك إياه وقبض ثمنه.
ــ ولكن كيف يُمكن قصّ فتحتي أنفه؟ إن هذا أمر مؤلم للغاية. وكيف سيعرف وسيحتفظ برائحة وطنه الجديد لديك طالما فقد الحاسّة التي ستدلّه عليك؟
ــ الطيور كائنات صغيرة ولا يدوم ألمها طويلاً يا صديقي.
قال لي ذلك ببساطة. "الكائنات الصغيرة لا يدومُ ألمُها طويلاً". إنها جملة من الشعر قلتُ لنفسي، ابتسمتُ بسبب الجملة الشعريّة التي قالها، بينما الألم انتقل إليّ، وبما أنّني من الكائنات الكبيرة فقد استمرّ ألمي لحدّ الآن...

*شاعر سوري مقيم في ألمانيا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.