}

البؤس الذي يظلُّ لامعاً

عارف حمزة 18 أبريل 2019
يوميات البؤس الذي يظلُّ لامعاً
لوحة (غارنيكا) لبيكاسو في مدريد/ إسبانيا (29/6/2009/ Getty)
تقلّبتُ كثيراً في الليل، لم يأت النوم بسهولة، ويبدو أنّني نمت من كثرة التقلّب. كان الجورجيان الآخران قد عادا في الليل ومعهما الغنائم التي سرقاها من المحلات التي تبعد عن مركز الاحتجاز عدّة كيلومترات. طوال الليل كانا يتحدّثان ويُغنّيان، ومن وقت لآخر كانا يرقصان أيضاً وقد انضم إليهما باتوشكا. وأنا لن أستطيع النوم، أو مواصلة النوم، مع هذه الضوضاء بسهولة، لقد علّمتنا الحرب أن نكون حسّاسين لجهة الأصوات المنخفضة والعالية، حتى أنّنا كنّا نطلب فجأة أن يصمتَ الجميع لكي نُنصت لصوت خافت، كان في النهاية صوت خنفسة انقلبت على ظهرها وهي تصعد الجدار، وتطلبُ النجدة بأرجلها وهي تضرب الهواء.علّمتنا الحربُ الإنصات للأصوات الغريبة، وهذا لا ينطبق على أصوات البشر فما كنا نُنصت إليهم كما كنّا نفعل في أوقات الرخاء، لكي نعرف كيف نُنقذ أطفالنا الأبرياء إذا بدأ القصف، وعادة ما يفشل الأهل، مهما ذكّروا أنفسَهُم، في ذلك.
ربّما كانت صعوبة نومي هي بسبب المكان الجديد الغريب، وكذلك بسبب الوسادة الرقيقة التي يستخدمها الألمان، الوسادة المربّعة الشكل، والتي مهما طويتُها لن تكون مناسبة لرأسي، وبالإضافة إلى ذلك، فقد وضعت "اللابتوب" الخاص بي تحت الوسادة، لكي لا أفقده، ليس بسبب باتوشكا وأصحابه فحسب، بل لأنّ أبواب الغرف ليس لها مفاتيح، وتبقى مفتوحة طوال الوقت. وكلّما تقلّبتُ كان يأتيني صوت من "اللابتوب" وكأنّه بدأ العمل، وهذا يدلّ على مكانه بسهولة إذا ما حاول أحدهم إيجاده وسرقته.
بعد محادثتي الارتجاليّة مع باتوشكا، خرجتُ قليلاً كي أتجوّل في المكان الواسع هذا. سلّمتُ اللابتوب إليه وطلبتُ منه أن يُحافظ عليه. "كل ذكرياتي وئكريات عائلتي وكتبي الشخصيّة، والكتب الإلكترونيّة التي حمّلتها من الإنترنت، ومقالاتي موجودة هنا يا باتوشكا. تستطيع أن تقول إنّني أترك حياتي أمانة لديك!". ابتسم باتوشكا وقال "لا تخف. ستعود من مشوارك وستجد حياتكَ في انتظارك".
المكان كبير وواسع. هناك مبنى ضخم هو المكان التابع للـ"السوسيال"، وتوجد فيه مكاتب لرجال الأمن (أو السيكوروتي) وكذلك مكان الفحص الطبي والبدني وتسجيل المعلومات وتحديد مواعيد المقابلات، وغرف لبعض الأمّهات المُعنّفات. على جوانب المبنى هناك ميلان كأنّه يقود إلى واد سحيق. يبدو المبنى مستقلاً عن البيوت المسبقة الصنع والمطعم البعيد لمسافة كيلومترين تقريباً. يبدو المكان وكأنّه كان سجناً في السابق أو ثكنة عسكريّة تمّ إضافة بعض الأماكن الجديدة إليه بعد موجة اللجوء الهائلة من سوريّة عبر بلدان وبحار عديدة.
على المرج الأخضر كانت تتوزّع المكان عائلات عديدة. كان الرجال، في معظم الأحيان، بالشورت والتي شيرت، أو حتى بالشيّالات الداخليّة. يونيو شهر حار، ورطب، نوعاً ما في ألمانيا. بينما النسوة يختلف لباسهنّ بحسب المكان الذي جئن منه. كان الجميع يتحدّث بصوتٍ عالٍ وكأنّه في مقهى أو في سجن مشترك أو في محطات الانتظار الخاصّة بالقطارات والباصات، ربّما الصوت العالي يجعلُ الانتظار والزمن خفيفي الوزن، فكّرتُ في ذلك وأنا أتمشّى في الساعات الأخيرة لي هنا قبل أن أغادر غداً. اللغات المختلفة كانت تتدحرج على المرج مثل كرات كرة القدم ويُلاحقها الأطفال من مكان إلى آخر. ربّما بسبب الصوت العالي للناس لم أنتبه إلى هيئاتهم إنْ كانت جميلة أم لا. ولكنّ البؤس كان يلمعُ مهما غطوا أجسادهم بالثياب المستعملة. الثياب المستعملة كانت تجعل ماضيهم البائس برّاقاً وغير مستعمل.
لم أنظر باتجاه أحد مباشرة، أو لم أنظر في عينيّ أحد أو جسده عن قرب، رغم أنّني كنتُ أشعر أنّ هناك الكثير من العيون التي سحبتني إلى داخل شبكيّاتها. كنتُ ألقي نظرتي إلى البعيد وأنظر إلى البشر الذين لا أحد يعلم كيف تمّ جمعُهم بسهولة في هذا المكان، إنّهم من ثلاث قارّات على الأقل، آسيا وأفريقيا وأوروبا، غامروا كثيراً وكأنّهم يُريدون الوصول إلى الفردوس،
هرباً من درجات الحجيم المختلفة الذي كانوا فيه.
وأنا أمشي وأمشي سمعتُ لهجات عربيّة مُتعدّدة، مصريّة وعراقيّة ولبنانيّة وجزائريّة، أو مغربيّة، هناك مَن كان يُعطي نصائح للذين جلسوا حوله:
- يجب أن تعرف اللهجات والمناطق السوريّة جيداً. إذا قلتَ لهم "أنا سوري" حتى لو لم يكن عندك وثائق سوريّة ستحصل على اللجوء، ولكن عليك أن تعرف بعض اللهجات والكثير من المناطق.
- يا أخي الحجّة موجودة. قلْ لهم "الوثائق غرقتْ في البحر وأنا نجوت". قل لهم "لم يبق من بيتي شيء حتى تنجو الوثائق". قل لهم "قبل أن نصل إلى حاجز لداعش، قام عناصر حاجز النظام بسلبنا كلّ شيء. وقبل أن نصل لحاجز النظام، قام عناصر حاجز الإرهابييّن الإسلامييّن بسلبنا كلّ شيء". واسألهم بلهجة الغريق "إذا كانت الوثائق غير موجودة معي، هل يعني ذلك أنّني غير موجود؟".
- حبيبي. خلال الحرب العراقيّة – الإيرانيّة، لجأ الكثيرون إلى ألمانيا وغيرها من دول أوروبا، السوري قال إنّه عراقي وحصل على اللجوء، الآن جاء دوره كي يردّ لنا الدين. كذلك اللبناني والمصري واليمني والجزائري والسوداني.. والفلسطيني طبعاً، قال إنّه عراقي لكي يحصل على اللجوء، ومن بعدها حصل الكثير منهم على الجنسيّات الأوروبيّة بسبب حربنا نحن.
- ابحث عن مدينة سوريّة معيّنة على "غوغل". عندنا وقت طويل حتى يُحدّدوا لنا مواعيد المقابلات. ادرس عن هذه المدينة ولهجتها وأهم الأماكن فيها، وحتى مطربيها وأغنياتها المشهورة. اتعب على نفسكَ قليلاً حتى تبقى في الجنة.
- غداً أو بعده سينقلوننا إلى "الكامبات" التي يوجد فيها سوريّون، وهناك سنعرف منهم كل شيء. لن نحتاج إلى غوغل. سيكونون معلّمين لنا في كل التفاصيل.
وهكذا اكتشفتُ بأنّني لستُ السوري الوحيد الذي جاء إلى هذا المركز بالخطأ؛ بل يوجد سوريّون كثيرون ولكن بلهجات عربيّة مختلفة!!
عدتُ إلى الغرفة واستلمتُ "حياتي" من باتوشكا. فتحت حقيبتي، وهي مربوطة بقوائم السرير، وأخرجتُ ثياب النوم واستلقيت على السرير المعدنيّ قبل أن يأتي المحاربان من غزوتهما. لم أنم حتى الرابعة فجراً. لم أنم، بل أُغمي عليّ.

*شاعر سوري مُقيم في ألمانيا

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.