}

حامل الجسد

أحمد العمراوي 11 فبراير 2019
يوميات حامل الجسد
بهمان محسيس
 

1

ينتمي الإنسان إلى فصيلة الدواب التي تدبّ على الأرض بحثا عن الرزق والزاد وأشياء أخرى تبدو أحيانا مجهولة. يتجه بوعي أو بلا وعي لجهة ما يختارها أو قد يسير إليها تابعا للقطيع.

نقول دَبَّ يَدِبُّ إذا سار ببطء، ومن ثَمّ أتى اسم الدابة، ومنها اشتقت الدبابة الشبيهة بالسلحفاة. نحن نخوض في أرض الناس، فإذا ارتفع عنها الفرد صار كائنا فضائيا لا طاقة لنا به الآن. فلنرتبط بأرض الناس إذن.

تتكون كل دابة من مجموعة أعضاء تتحرك للأمام وللخلف في غالب الأحيان، فالدابة تتجه غالبا للأمام تقودها النظرات أو تقودها عصى تطأ الأرض بالنسبة لغير المبصرين، لتتقدم في بحثها الدائم. عمّ تبحث هذه الدابة؟ عم يبحث الإنسان في تقدمه للأمام؟

للجواب عن هذه الأسئلة البديهية لا بد من البحث عن المُوجِّه ونعني هنا حامل الجسد: الرأس بما يحمله من مخ وأعصاب ونورونات دقيقة تتحكم في السير والمسير، وربما في مصير الشخص أيضا.

2

الرأس هو حامل الجسد. هكذا تبدو المسألة، فهل يمكن للفرد منا أن يسير بغير رأس. الرأس هو حامل الجسد، "فهل هناك شيء أقل خفية عن أنظارنا من أفكارنا وذكرياتنا، والتي تكون بشكل واسع ذكاءنا... لقد بقي المخ لمدة طويلة عبارة عن علبة سوداء"[1]. هذه العلبة السوداء الضرورية العجيبة الغريبة التي تزداد غرابتها كلما تقدمت العلوم في بحوثها.

رأس. مخ. عقل. وأعصاب جامعة ممتدة من الأعلى للأسفل ومن الأسفل للأعلى. من الأعلى تتم البرمجة باللغة أساسا فتحدث الحركة، وقد يحدث السكون. حامل الجسد يتحرك بالمخ، "وهو لا يشكل سوى 2% من وزن الجسم لدى البالغين، والمخ وحده يستهلك 20% من طاقته. وحتى في حالة الراحة فإن المخ يستهلك الكثير من الطاقة كما لو كان مستيقظا"[2]. ما هي الطاقة التي ستجعل المخ يقظا فطنا ذكيا؟ إنها المعرفة ثم المعرفة. لقد "ثبت للعلماء أن للمخ تكوينًا ديناميكيًا يُعدِّل من تركيبه خلال سويعات، كاستجابة للتغيرات داخل الجسم وخارجه، وتصل هذه الاستجابة إلى درجة تكوين خلايا عصبية جديدة، وهو أمر كان يُعتقد باستحالته فيما مضى، وتعرف تلك القدرة بظاهرة اللدونة – أو المرونة – العصبية"[3].

المرونة إذن هي ما يمنح لهذا الجهاز الكبير حمل هذا الجهاز الصغير رغم أن العكس هو الحاصل. حامل ومحمول، وتداخل حد الذوبان.

احملني أحملك. اهتم بي أهتم بك يقول لك الرأس، ورأس الشيء هو مقدمته الموجهة صوب اليمين أو صوب اليسار. وتبقى المعرفة هي ما يميز هذا عن ذاك. قد تقودك المعرفة أماما فتحترق إذا كانت سرعتك غير ملائمة، وقد تبقيك في أسفل الترتيب إذا أرجعتك لماضٍ لا فائدة منه.

المعرفة. الثقافة. الإبداع. وما سوى ذلك محض هباء تابع. المال والجاه والسلطة ولكلٍّ سبيل اختارها بالجينات وبالتربية وتأثير الآخرين على الناس والأشياء.

يتكون الدماغ، وهو قلب الرأس، من فصين: الأيسر وهو الذي يُعنى بالمنطق والتعلم وما يرتبط بهما، وهو المسؤول عن التحكم في الجزء الأيسر من الجسم، ومن وظائفه: التفكير الشكلي، وفي هذا الجزء توجد الكلمات والأرقام والمنطق والحسابات والتحليل. أما الفص الأيمن من الدماغ فيُعنى بالفنون والابتكار، وهو الذي يتحكم في الجزء الأيسر من الجسم. وتتمثل وظائفه في تذوق الموسيقى والفن. وبهذا الجزء يوجد الإيقاع والإدراك المكاني والخيال والألوان والصور والتناسق والأصوات والمشاعر.

التكامل مطلوب لدى أي فرد منا إذا أراد أن يعيش فاهما لوضعه. وبالمعرفة يتم ذلك. وقد يكون هذا هو السبب الذي جعل العلماء يطلقون على هذا التخصص: علم النفس المعرفي.

3

حامل الجسد ذكي على أية حال مهما تدنى نوع من أنواع هذا الذكاء بسبب عوامل قد تكون خِلْقية وقد تكون مكتسبة. إلا أن الأصل هو أن هذا المخ الأعجوبة يزن لدى الرجل البالغ 1350 جراما في المتوسط... ويحتوي على 1% من خلايا الجسم تقريبا. إنه يحتوي على مئة مليار خلية. وخلايا المخ مرتبة على هيئة شديدة التعقيد[4].

تواصل بالداخل من أجل تواصل مع العالم الخارجي، تداخلات لم يعد معها بالإمكان التخصص في مجال وجهل المجالات الأخرى. الكاتب والشاعر والمبدع عامة مطالب بفهم كيفية حدوث هذه العملية الإبداعية ولو بشكل عام. "لقد أظهرت التقنيات الحديثة للتصوير ليس فقط تركيبة الدماغ ومناطق النورونات، وإنما أيضا الحوار الدائم الذي تجريه ملايين الاستقبالات المقسمة على كل الجسم"[5]. وهكذا يرتبط الأعلى بالأسفل، الجسد وحامله، كل يؤثر على الآخر، والعلبة السوداء المتربعة عرش المخ قد تتأثر بشكل كبير بهذا الجسد مهما كان نحيلا لاستمراريتها. وقد تكون الأمعاء ربما هي مفتاح صحتنا النفسية والعقلية ، ذلك أن"العديد من الأبحاث قد بدأت تكشف شيئا فشيئا هذه العلاقة المتوازية بين اضطرابات الأمعاء والاضطرابات العقلية..."[6]

للمحافظة على الأعلى لا بد من مراعاة الأسفل. أرض وسماء. عقل وقلب. إبداع وعمل يدوي أو آلي. هكذا ترتبط المعرفة بالتصور والسلوك. الأدب بالعلم. والشعر هذا الضروري المُشفي من غلبة الوقت.



 [1]  Science et vie, Le Corps  يونيو 2016، ص: 16.

[2]  المرجع نفسه، ص: 108.

[3]  عمر شريف، ثم صار المخ عقلا، مكتبة الشروق الدولية، مصر، ط. 2014، ص: 53.

[4]  المرجع نفسه، ص : 43.

 [5] ص: 16 Science et vie, Le Corps [5]

[6]   Science et vie, Guérir L’esprit,   أكتوبر 2018، ص: 61

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
11 فبراير 2019

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.