}

حارس المقبرة

مي عاشور 8 ديسمبر 2019
يوميات حارس المقبرة
"الحارس ذكرني بشعور بالعزلة يداهمني من حين لآخر"
جبل لا يناطح ارتفاعه الأفق، ولكنك لا تدرك مدى علوه إلا حينما تصعد إلى قمته، وتنظر إلى الأسفل، فترى كم أنك بعيد عن النقطة التي بدأت منها الصعود، فتتحاشى السير قرب الحافة.  أخطأت التقدير، كأشياء كثيرة في الحياة، يبدو لي أنني أصبت تقديرها، ثم أجد أنني قد أسأت التقدير تماماً. أصعد سلالم قديمة مردومة بالحصى والرمال. ينتصف الظهر، وتزداد أشعة الشمس شراسة، فيسيل العرق من دون أن أشعر به، إلا عندما يلامس ملابسي فتمتصه.

أنا في مكان يبدو أنه لا يزدحم كثيراً بالبشر، على الأقل في الوقت الذي كنت فيه هناك، لم أر سوى من كنت معهم، وعائلة صغيرة تبدو أنها تسكن مكاناً مجاوراً، وما عدا ذلك فالمكان خال، كتلك المواقع الأثرية التي يتم اكتشافها بمحض الصدفة؛ مهجور، غامض، ويهيمن عليه السكون، ولكنه ممتلىء بحكايات لا تنتهي.
أنتهي من الصعود المتواصل المُنهك، وعندما أصل إلى القمة، ألقي نظرة إلى أسفل، فلا تلمح عيناي سوى صفار منطفئ، وحافلة، ومظلة لا يوجد تحتها شيء سوى ظلها الوحيد. وعلى مرمى البصر بيوت متواضعة لقرية، ولا شيء سوى ذلك.
على قمة الجبل مقابر فرعونية، متجاورة ومحفورة بداخل الجبل، إن اجتزت عتبتها، دخلت حجرة محاطة جدرانها بالحكايات التي تتنظرك لتكتشفها، وإن لزمت مكانك ظللت واقفاً في رحاب زمن تنتمي إليه. هناك، تماماً عند باب المقبرة، يقف حارس يرتدي زياً زيتيّ اللون، متناغماً مع لون الجبال والرمال والرسومات الموجودة على جدران المقابر، يبدو أنه مسن، في الحقيقة قد أُخطىء التقدير مرة أخرى، فربما هو ليس مسناً، ولكن بعض الناس تحمل أشياءً ثقيلة بداخلها، فتنعكس على ملامحها بشكل أو آخر، ربما الخطوط الموجودة على وجهه، ليست التي أحدثها الزمن، ولكنها خطوط حددها التعب أو البؤس. فأنا لا أدري.
أرى الحارس يدخل ويخرج بهدوء. تنسى وجوده، ولكن عند لحظات بعينها، يبدو حضوره أقوى من أي شيء يحيط بك؛ لأنه يحضر ومعه لفيف من الأسئلة التي تسيطر على تفكيرك، وتكسر هيبة الزمان والمكان، فتجد نفسك تتأمل رسومات الجدار تارة، وتنشغل بأحواله تارة: أين وكيف يتناول طعامه؟ هل هو مقيم دائم هنا، أم له ساعات دوام محددة؟ وكيف يواجه تعاقب الليل والنهار، بما يحملانه من رجاء وخيبة؟ كيف يمضي عليه كل هذا الوقت، في ذلك المكان شبه المهجور، والذي تحرقه الشمس صباحاً، وتجتاحه الرياح ليلاً؟ هل اختار أن يعمل كحارس أم لم يجد عملاً سواه؟ هل يتسرب الملل إلى قلبه؟ هل يشعر بالخوف؟ أو حتى يراوده القلق؟ هل يشتاق إلى عائلته وبيته ببقائه هنا وحيداً منعزلاً؟ هل يسكن مكاناً مجاوراً أم قرية بعيدة يعود إليها بفرحة حبيس أُطلق سراحه؟ بالطبع هناك عاملون آخرون في المكان، ولكن وحده حارس المقبرة صاحب هيبة مستمدة من الحضارة والتاريخ، وليس موظفاً للتذاكر أو مرشداً يشرح للزائرين؛ مما يعني أن إقامته هنا هي الأطول.
أعاود الانشغال بالتصوير والرسومات الموجودة على الجدران، وبالشرح، وبما سوف أقرأه حول المكان بعد عودتي إلى القاهرة.  يفصلني عن وجودي في المقبرة بعض الأفكار العابرة. أسير في ممر معتم، يبتلع الظلام ملامح نهايته، فمن المنتظر أن بنهايته التي لا أراها نوراً، ولكن عند نقطة لا أتوقعها، وتماماً فوق رأسي، ينسدل نور طفيف، ولكنه قادر على أن ينير الممر بكسرة وميل، فيغلب عتمتي وعتمة المكان. أخرج من المقبرة. أشعر بالهواء يلاطف جفاف الأجواء الحارقة. تقطع حبال أفكاري مرة أخرى الأسئلة عن أحوال الحارس؛ كيف يمر عليه الشتاء، وماذا يفعل عندما ينهمر المطر، وأين يحمى نفسه من البرد في مثل المكان المرتفع المفتوح الذي يحيط أركانه الغموض؟ تبدو أسئلة لا معنى لها. ولكن الحارس ذكرني بشعور بالعزلة يداهمني من حين لآخر، أشعر أنني في مكان ناءٍ، أواجه فيه كل شيء، بل وأتغلب عليه بمفردي في صمت وثبات.
قد يُذكر الشيء بالشيء، وكذلك يتجسد فيه، فتجد نفسك تقف أمام شيئين متباينين في ظاهرهما، متشابهين في جوهرهما، وفي هذا المكان اجتمع شعوري العابر بالعزلة مع العزلة الدائمة للحارس، وكذلك بحثي وبحثه عن شيء بهيج وسطها؛ لعل شيئاً جميلاً يحدث، مثل سقوط مفاجىء لغيمة، أو تسلل باقة من نور إلى الأفق. أدركت ذلك تماماً، حينما شق السكون والتفكير شيء قاله شخص ما، فوجدتني أبتسم، ونظرت فوجدت ابتسامة الحارس قد استأنست أيضاً بتلك المزحة العابرة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.