}

ريفا من الموصل

هيفاء بيطار هيفاء بيطار 28 ديسمبر 2019
يوميات ريفا من الموصل
"تبادلنا نظرة جعلت روحينا تشعان بعشق الوطن" (Getty)
كنت شاردة وغارقة في الحنين حين أعطيت المال لشابة صغيرة السن نحيلة جداً تعمل على جهاز الصرافة في السوبر ماركت في باريس القريب من بيتي وقلت لها: شكراً بالعربية! وسارعت لاستدراك الكلمة المُنفلتة مني وعبرت لها عن شكري بالفرنسية. لكن ملامح وجهها الطفولي المُوشح بغلالة حزن لا تخفى تهللت وسألتني: هل أنت عربية؟ قلت: أجل ومن سورية، وسألتها: وأنت؟ قالت: أنا من العراق، من الموصل. وتبادلنا نظرة عميقة جعلت روحينا تشعان بعشق الوطن الجريح، سورية أو العراق، نظرة جعلت جدراناً تتحطم بيننا. وجدتني أسألها عن اسمها: فقالت: ريفا. اسم غريب أسمعه لأول مرة ولا أعرف إن كان عربياً. لكنني سألت ريفا عن ظروفها فقالت إنها في باريس منذ ثلاث سنوات مع أبيها وأخت وأخ يصغرانها وبأن أمها ماتت بشظية صاروخ شرخ جسدها نصفين. لا أعرف لم افتعلت ابتسامة أو ضحكة قصيرة ربما كي لا أبكي. ووجدتني أقول لها: متى ينتهي عملك في السوبر ماركت؟ قالت: السادسة مساء. قلت لها سأدعوك إلى المقهى التونسي القريب من بيتي ومن مكان عملك. أنا أحب هذا المقهى يقدم أركيلة ممتازة وحلويات تونسية. بدا على ريفا الذهول وارتبكت وقالت لي متلعثمة: أنت هيك! قلت لها: أنا هيك مع إنسانة مثلك قرأت جيداً روحها.

والتقيت ريفا في مقهى الشاب وسيم التونسي وطلبت لها حلويات تونسية لأنها لا تدخن الأركيلة، حكت لي أنها في عمر خمسة عشر عاماً عاينت جحيم الموصل ورأت شظية صاروخ تشرخ جسد أمها نصفين وبأنها رأت كلاباً يأكلون جثث أطفال في الموصل. ونزحت مع والدها وأختها وأخيها إلى فرنسا ولم تكن تعرف كلمة فرنسية وحالياً ريفا في صف البكالوريا وترتيبها الأولى مع أن مادة الأدب الفرنسي في قمة الصعوبة لكن ريفا حققت إعجازاً بنيلها العلامة التامة في مادة الأدب الفرنسي وفي كل المواد. ولأن ريفا نازحة وتعيش وأسرتها من معونات الدولة الفرنسية فهي مُعفاة من دفع أجرة الغداء في المدرسة التي هي سبعة يورو كل يوم، أي أن ريفا وأمثالها يتناولون غداءهم مجاناً لكنها – كما أخبرتني – تعاني من تنمر رفاقها الفرنسيين عليها إذ تجد نفسها تحمل صينية الطعام بخجل وتقف في الدور وغالباً تكون الأخيرة ولا تجد شيئاً من الطعام تسد به جوعها.

ربما رفاقها الفرنسيون يغارون من تلك الغريبة التي احتلت المكانة الأولى في صف البكالوريا والتي تعمل في سوبر ماركت لتؤمن مصروفها. كنت أتأمل ريفا وهي تتكلم كأنني أتأمل أيقونة، ريفا صارت تعني لي العراق متجسداً بأروع صوره. ووجدتني أسألها بعد تردد: ريفا ألم تحتاجي لاستشارة طبيب نفساني بعد كل الفظائع التي شاهدتها في الموصل وخاصة صورة أمك ميتة ومشطورة نصفين؟ قالت لي وهي تطقطق أصابع يديها (عندها هذه العادة): لا أبداً.. أنا أؤمن بالله ويجب أن أكون قوية كي لا ينهار إخوتي الصغار. كانت ريفا تأكل الحلويات التونسية بخجل وارتباك حتى لوثت كنزتها بالسكر الناعم، تجاهلت ارتباكها وبدأت أنصحها بأنها يجب أن تكون قوية ومعتدة بنفسها أكثر وأن (تطحش) أثناء تناول وجبة الغداء في المدرسة حتى تأكل. ضممت ريفا إلى صدري وهي تنتظر الباص رقم 24 لتذهب إلى بيتها وهو عبارة عن غرفة فقط تتشارك بها مع والدها وأختها وأخيها. واتفقت معها أن نزور اللوفر يوم عطلتها وبأن سنتغدى في مطعم جميل. كانت ريفا بحالة ذهول دوماً معي ربما لأنها لم تشاهد أي نوع من التعاطف الإنساني والوجداني. وحين عدت إلى البيت كنت أتمنى لو أبكي، وكانت روحي تردد اسم ريفا كما لو أنني أصلي. ووجدتني أتصل بصديقة طبيبة تعيش في باريس منذ ربع قرن وحكيت لها عن ريفا، كنت بحاجة أن أحكي كي لا أنفجر من القهر، وأصغت لكلامي الصديقة المزعومة وسألتني ببرود: هلق ريفا من جماعتنا! قلت لها: لم أفهم ماذا تقصدين: قالت: يعني ريفا مسيحية؟ يا إلهي كأنني تلقيت صفعة مُدوية على وجهي ولم أستطع الرد فوراً، لكنني قلت لها باستخفاف تعمدت أن يصلها: لا يهمني إن كانت ريفا مسيحية أم مسلمة أو شيعية أو أي دين كان. ريفا ابنة الموصل العظيمة. وأنهيت المكالمة وأنا أفكر بكلام تلك التي أعتبرها صديقة، وأنا بحالة ذهول وألم من هذه الطريقة الطائفية في التفكير، لأن ريفا لو كانت مسيحية لتعاطفت معها أكثر. لا أمل بالحرية وقبول الآخر أمام منطق طائفي كهذا. والسيدة طبيبة اختصاصية وتعيش في باريس منذ ربع قرن ويُفترض أن تكون صاحبة ذهن متنور. كيف لم تتعاطف مع مأساة طفلة عراقية كانت ضحية وشاهدة على كم من الإجرام والوحشية يجعل العقلاء مجانين! وظل صوتها الميت الخالي من أي تعاطف إنساني يؤرقني طوال الليل وسؤالها المُقزز: هل ريفا من جماعتنا!! هل ريفا مسيحية!

يوم الأحد انتظرت ريفا لأصحبها إلى اللوفر فهي لم تزر أي مكان في باريس. تعيش في غرفة مع أسرتها وتذهب إلى المدرسة وإلى عملها في السوبر ماركت (وهو نصف دوام). أتت ريفا تلبس معطفاً وردياً مُلبداً واضح أنه من سوق الألبسة المُستعملة، لكن كانت أنيقة أناقة الفقراء وقد لمعت حذاءها وأسدلت شعرها الكستنائي الجميل على كتفيها، كانت تحمل لي باقة من الزهور البديعة مربوطة بشريط فضي قدمتها لي دون أن تقول أي كلمة إنما شعت عيناها بابتسامة جعلت الدموع تختنق في حلقي وبصعوبة تمكنت من ابتلاعها للداخل. قلت لها: ريفا لا داعي للزهور حبيبتي، أنت أجمل زهرة التقيتها في حياتي يا عروسة الموصل. طقطقت أصابعها وقالت وهي تضحك بخجل: أتعرفين أنا يحق لي خصم 25 بالمئة على أي غرض في السوبر ماركت لأنني أعمل به. كانت زهور ابنة الموصل أروع هدية تلقيتها في حياتي ولعل ريفا حرمت نفسها من وجبة طعام أو عدة وجبات طعام كي تشتري لي الزهور. وللحظة كادت عبارة تنفلت مني لكني لجمتها بقوة، كدت أطلب من ريفا أن تناديني ماما وفكرت أن ريفا لن تتمكن أبداً أن تنادي أمها وأن هذا جرح كبير في روح طفلة رأت أمها تموت أمام عينيها.


ريفا تؤمن بالله الذي يقويها ويحذرها من أن تنهار كي لا ينهار أخواها الأصغر منها. وصلنا إلى اللوفر أنا وريفا. اتسعت عيناها دهشة وأخرسها الجمال والعراقة والحضارة، قلت لها: سنقضي كل اليوم في اللوفر ريفا. أمسكت يدي وضغطت عليها وقالت: أنا سعيدة أشكرك. قلت لها: أنا من عليّ أن أشكرك يا نجمة الموصل المضيئة، يا ريفا العظيمة التي أحيت الأمل في روحي المتخمرة بالحزن منذ سنوات. صورت ريفا كثيراً أمام معالم اللوفر وأجبرتها أن تقبل مني هدية عدة صور جميلة للوحات عالمية لرسامين، صفقت فرحاً وقالت: سوف أزين بالصور المنزل، أقصد الغرفة. مشينا معاً – ريفا وأنا – جرحين متوازيين لكن يلتقيان بقدرة قادر، جرح من سورية يتأبط ذراع جرح من العراق. كانت روحي تشع بالأمل والمحبة وأنا أمسك يد ريفا ابنة الموصل.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.