}

ماء النفــــــار*

أيوب مليجي 30 نوفمبر 2019
سير ماء النفــــــار*
(Getty)
أن تثرثر وتتكلم كثيراً من دون أدنى شعور بذلك، تلك معاناتي.

أخبرتني والدتي بأنني عندما كنت طفلاً صغيراً لاحظت هي ووالدي تأخري في النطق، وما كان يفعلانه فقط هو ترقب اللحظة التي سأنطق فيها، والدعاء لي بأن يزيل الله عني هاته العقدة.
مرت أيام وشهور وسنوات، كبرت وكبر معي قلقهما، مع عديد وصايا الأقارب وأصدقاء العائلة، خصوصاً النساء منهم اللاتي كن يقترحن على والدتي وصفات وأشياء كثيرة لا حصر لها، منهن من اقترحت عليها أن أبيت ليلة بضريح أحد الأولياء. لم تشأ والدتي ذلك، لعدم اقتناعها بما تعتبره خرافات.
في أحد الأيام، كنت رفقة والدي في زيارة إلى جدتي في مدينة الرباط، في مجلس الأسرة مع أعمامي وأبنائهم، لاحظت جدتي مشكلتي، فرتبت الأمر وعزمت على أخذي سراً إلى ضريح ولي قريب من البيت الذي تقطن فيه.
هيأت طبق الكسكس، وألبستني ملابس جديدة، ثم توجهنا إلى الضريح.
للضريح أمين يسهر على حمايته، والتعامل مع زواره، حيث استفاد صحبة أقاربه من قصعة الكسكس، وسمح لنا بولوج المكان، وأخذ كامل حريتنا.
كان مطلوباً مني أن أنام قرب القبر المسجى بالغطاء الأخضر، لكنني لم أذعن. انتهزت لحظة غفو جدتي لأركض حول القبر، وكأنني داخل حلبة للعدو.
لم تنفع حيلة جدتي، ولا الولي الذي استنجدت به، ربما لأن قصعة الكسكس لم تعجب أمين الضريح، فكان أن حجب بركته عني، هذا ما خمنته الجدة.
ولم تتعب جدتي بعد.
في مجمع للنساء المسنات وهن يتبادلن أطراف الحديث عن أولادهن وبناتهن، يقترحن فلاناً ليكون عريساً لفلانة، ويتساءلن عن سر عدم إنجاب فلانة بعد، عن عوانس الحي، وما إلى ذلك، استفسرت جدتي صديقاتها عن حل لمشكلتي.
اقترحت عليها إحداهن أن تجلب لي ماء "النفار" لكي أشربه، نظراً لمفعوله السحري، حسب الثقافة الشعبية النسائية. كنا حينها على مشارف شهر رمضان، فاستدعى الأمر ترتيباً أسرع.
حسب ما روته لي جدتي، والعهدة عليها، تمت الاستعانة بشخص يدعى با محمد، له باع طويل في مهنة النفار، تارة يشتغل في فرقة للدقة المراكشية، وعندما يحل شهر رمضان ينتقل إلى وظيفته الأخرى التي تبدأ بلحظة إعلان رؤية هلال الشهر، إلى إيقاظ الناس قبل السحور، والتنبيه لقرب موعد الإفطار، وختاماً بإعلان انتهاء شهر الصيام، واستقبال عيد الفطر.
تطوعت سيدة تقربنا للتواصل معه. كان المطلوب منه أن يصب قنينة ماء عادية لم تستعمل قبل في آلة النفخ النحاسية الطويلة التي يستخدمها، وربط أسفلها بقنينة ماء فارغة يتجمع فيها ما تم سكبه، وذلك ما تم بالفعل، والعهدة هذه المرة على قريبتي، وليس الجدة.
تم الإتيان لي بذلك الماء، شربته دفعة واحدة، لم أع حينها طعمه، لكنني في شربي له كنت أشبه ذلك النفار، أنفخ في قنينة الماء التي كنت أحاكي بها تلك الآلة، وكانت تلك الوصفة السحرية الموسيقية التي فكت عقدة نطقي وشذبت حبال صوتي، والسبب الذي جعلني في ما بعد أثرثر بما أدري وبما لا أدري، وكنت كلما تشاجرت، أو ثرثرت مع والدي، يدعوان على النفار بما لا يغتفر.

*النفار باللهجة المغربية تعني ما يصطلح عليه بـ"المسحراتي".

*كاتب مغربي مقيم في سلطنة عمان.

مقالات اخرى للكاتب

سير
30 نوفمبر 2019

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.