}

الفستان

رولا الحسين 21 أكتوبر 2019
قص الفستان
اللوحة للرسام الإيطالي ساندرو بوتيتشيلي (Getty)

هذه ليست المرة الأولى التي تقف فيها متسمِّرة أمام واجهة هذا المحل متأمِّلة الفستان نفسه. لكن ما يختلف هذه المرة أنها ستدخل لتشتري ما تأملته طوال الشهرين الماضيين. تأملها له اليوم مختلف، ففي السابق كانت تنظر إليه لتعُدَّ الورود التي تشكّل نقشته المتكررة، ومحاوِلةً تحسّس نوع القماش بعينيها، مؤجلة لمسه بأصابعها لحين تصبح جاهزة؛ أي اليوم.
كانت في السابق تنظر إلى الفستان بقلق. يقلقها ألّا تجده في الواجهة أثناء مرورها الأسبوعي من أمام المحل، كأن تسبقها إليه متأمِّلةٌ أخرى مثلاً، وتسرقه منها قبل أن تتمكن هي من جمع ما يكفي من النقود، فتنتشل هذا الفستان عن جسد المرأة الصّنم في الواجهة… وإلى الأبد.
أما اليوم فهي مطمئنة، طمأنينةً نسبية. منذُ لمحَته أول مرة اعتبرته فستانها المميز. الفستان الذي تريده، والذي قررت أن تنتظر شهرين لأجل لحظة لمسه وقياسه والحصول عليه. واليوم ستحصل عليه بالفعل.
وقفتْ اليوم أمام الواجهة على رؤوس أصابعها، كي يزداد طولها بضع سنتمترات فيصل مستوى رأسها ويكمل جسد المانيكان، فتبدو كأنها هي من يرتديه. لا ترتدي الفساتين عادةً، كانت تظن أن من شأنها أن تجعلها محط أنظار، وهو ما لم تكن ترغب فيه سابقاً. ولكن منذ أن أتمّت السادسة والثلاثين من عمرها، بدأ يكدر صفو غرقها مع نفسها سماعُ كلمات الإطراء التي تُغدق على مسامع زميلاتها الفاتنات بتنانيرهن وفساتينهن، دون أن يصيبها أي منها، كأنها تقبع في طبقات سفلية من مبنى ضخم، يغطيها غبار مجلدات ضخمة تقوم بأرشفتها فيصعب على أي شخص رؤيتها، وبالتالي إطلاق أي إطراء نحوها. جعلها هذا الإحساس بالإقصاء تشعر بتعب العزلة الذي كان مألوفاً في السابق، لكنها الآن بدأت تشعر برغبة بنفض هذا الغبار عنها. ووجدت نفسها غارقة في محاولة إيجاد جوابٍ واحدٍ وحسب: هل عزلتها هي سبب عدم حصولها على إطراء، أم نتيجته؟
كانت مدركة أنها مسؤولة بنسبة كبيرة عن هذا الوضع، فكيف تتوقع أن يهتم أحد بالتقرب منها وهي التي تتناول طعام غدائها وتمضي فترة استراحتها في الحمام، وتضع يومياً أمامها، على مكتبها، ثماني قطع من البسكوت المفضل لديها، تتناول قطعةً منها بعد مضي كل ساعة منذ وصولها وحتى مغادرتها. عزلتها التي كانت مطلبها لم تعد كذلك. وهي الآن وصلت عمراً مناسباً يُمكّنها من اتخاذ قرارٍ جذريّ بشأن عزلتها وعاداتها الغريبة، وسيكون مظهرها أحد سبل العبور باتجاه الإطراء، وبعيداً عن العزلة التي لم تعد تذكر كيف ومتى بدأت.
لمحت هذا الفستان منذ شهرين أثناء مرورها أمام هذا المحل، الفخم نسبياً مقارنة بالمحلات التي اعتادت التسوق منها، عندما ركنت على بعد عشر خطوات منه سيارتها الفولكس فاغن زيتية اللون، موديل سنة 1980، سنة ولادتها، أثناء توجهها إلى المركز الثقافي الفرنسي الذي يقع على بعد تسع عشرة خطوة إضافية، حيث بدأت بتعلّم اللغة الفرنسية التي تحب وقع كلماتها على أذنيها، ولا تتقن إلا كلمات قليلة منها. وهي في نطاق عملها في إحدى شركات الدعاية والإعلان ككاتبة إعلانات، محاطة بأشخاص يتحدثون طيلة الوقت مستخدمين مفردات فرنسية تجعلها خارج مجال الدردشة معهم. مهارتها في ترجمة أفكار الإعلانات الكبيرة إلى كلمات قليلة أسعفتها في الحصول على الوظيفة، ولكنها لم تشكل بطاقة عبور اجتماعية لها. دراسة اللغة الفرنسية كانت إحدى سبلها الجديدة للخروج من قوقعتها في مكان جديد بإمكانها أن تشعر فيه أنها جديدة. وصودفَ أنْ لمحت هذا الفستان في أول يوم لها في المركز، مما اعتبرته إشارة واضحة إلى أنها تتخذ كل الخطوات الصحيحة باتجاه قراراتها الجديدة. ستلمحُه مرة ذهاباً وأخرى إياباً، مرتين في الأسبوع، ولمدة شهرين، قبل أن تهمّ بالدخول للمسه وشرائه.
الفستان أسود، عليه نقوش متكررة لورود ألوانُها خريفية، ولهذا التكرار أثر لا يمكنها مقاومته في نفسها، شأن أي تكرار. قماشه من الجورسيه، له مسام مفتوحة كالبشرة وقابل للتمدد، ضيق جداً، بأكمام طويلة ضيقة أيضاً، له شكل القميص، لكنّهُ أضيق وأطول، بحيث يصل إلى الركبتين، وله أزرار تنوي أن تُبقي الثلاثة الأولى منها مفتوحة لكي تكشف عن مساحة مقبولة من منطقة ما تحت العنق وأعلى الصدر، كما أنها تنوي تركَ آخر زرّين مفتوحين لتخلق بذلك شقاّ عامودياً يُظهر ما أرادت إظهارهُ، خاصة حين يفتح الشق أثناء المشي، ليُظهر مساحة أكبر من داخل فخذيها.
لا تزال واقفة أمام الواجهة، ولا يزال الفستان معروضاً عليها، وهو أمر مستغرب وإن كان يلائمها جداً، وقد بررت بقاءهُ معروضاً في الواجهة كل تلك الفترة بالركود الاقتصادي الذي تعاني منه السوق. تأكدت من وجود المبلغ المطلوب في حقيبتها، والمقسّم على شكل حزم صغيرة في كل حزمة نفس قيمة ثمن الفستان. كل شيء جاهز إذاً، نظرت نظرة أخيرة للمرأة التي ترى انعكاسها في الواجهة، ابتسمت لها شبه ابتسامة ودخلت مع شعور جديد كلياً يشبه السيطرة، ظهر بشكل أقوى في الدقائق الخمس والثلاثين داخل المحل.
لم تُربكها أو حتى تَسحرها فخامة المحل، فهي لم تكن من الأشخاص الذين ينبهرون، أو على الأقل ليست من الأشخاص الذين يعبّرون عن انبهارهم. المحل صغير، ومثل الكثير من المحلات الفخمة لم تكن البضائع المعروضة متكدسة فوق بعضها، وإن وجد فيه الكثير من الموديلات، ولكن بقطع قليلة من كل منها، مما أثار بنفسِها شعوراً أقلق طمأنينتها النسبية التي رافقتها حتى اللحظة.
استطاعت فور دخولها أن تقوم بمسحٍ بصريٍّ شاملٍ، وأن تحدّد مكان وجود الفستان المطابق لذاك المعروض في الواجهة. اتجهت نحوه فوراً دون أن تعير اهتماماً للبائع الطويل الذي مشى نحوها لحظة لمحها وهي تدخل المحل. سبقت خطواتُها المتجهة نحو الفستان خطواتِه المتجهة نحوها، حاولت في هذه الأثناء أن تطال الفستان بيدها فتتجنب بذلك الأخذ والرد معه، لكنّه كان أعلى من أن تصله يدُها. وبلهجة آمرة وباردة وصوت هادئ ودون أن تنظر إليه، قاطعتْ ما بدا لها محاولة ترحيبية كان على وشك أن ينطق كلماتها وهو يمشي خلفها، قائلة له ومشيرة بسبابتها نحو الأعلى:
- عطيني هيدا الفستان. قياس 38 ودلني وين غرفة القياس بليز.
عند انتهائها من لفظ آخر كلمة، وبعد أن ابتسمت لنفسها ابتسامة مكبوتة تثني فيها على ما ظهر منها، كان البائع الذي بدا لها أنه في أواخر الثلاثين من عمره قد أصبح قربها تماما، ينقّل نظره بين الفستان المعلّق وبينها، دون أن يمد يده ليصل إليه، إنما بادر بالترحيب، شأنه شأن أي بائع يحاول كسب رضى زبونته، إلا أنه لم يكن يدرك بعد أنها ليست ككل زبوناته:
-  Bonjour mademoiselle، حلو كتير هالموديل، بتخيل بيلبقلك لأنك طويلة وهوي من الـ collection الجديدة.
قاطعته متعمدة عدم الرد باللغة الفرنسية كما فعل، وكما قد يفعل أي بائع أو بائعة في هذا الحي:
- لأ هيدا مش من التشكيلة الجديدة. وين غرفة القياس؟
ثم مشت أمامه دون أن تشرح له سبب نسفها لما قاله. وصلتْ أمام الغرفة قبل أن يدلها على مكانه، وانتظرته وهي تدير ظهرها له متأملة في المرآة الطويلة المعلقة خارج غرفة القياس يديها والخواتم العشرة المتطابقة التي تزين أصابعها العشرة. تبعها مؤكداً ما طلبته منه:
-  Voila mademoiselle، هيدا الفستان قياس trente huite. وإذا احتجتي شي je suis la.
فهمتْ كل الكلمات الفرنسية التي قالها، والتي تعرفها قبل أن تبدأ دورة اللغة الفرنسية. أخذت الفستان منه، دخلت وأغلقت باب الغرفة دون أن تنظر إلى وجهه. خلعت حقيبتها البنية ذات الحزام الطويل المعلق على كتفها الأيمن والمتدلي بشكل انحرافي باتجاه ردفها الأيسر، ثم خلعت بنطلون الجينز وبلوزتها الجديدة ذات اللون الخردلي والحبال المربوطة عند كتفيها، وأخيراً خلعت من قدميها حذاءها الرياضي البرتقالي. ارتدت الفستان المُنتظر، ثم نظرت أمامها وابتسمت لانعكاسها في المرآة ابتسامة كاملة هذه المرة. تماماً كما تخيلته. تماماً كما تخيلت شكلها فيه. تماماً كما تريد أن يراها زملاؤها في العمل. مررت يديها على الفستان بحركة تزيد من التصاقه على جسدها للتأكد، كأنها تحاول تحميل وتحفيظ ملمسه على أصابعها، شعرت بقوى جديدة، وقالت في سرها إنه من المؤكد أن هذا تماماً ما يشعر به سوبر مان أو سبايدر مان عندما يرتديان زيّهما. ومهمة زيّها أن يجعلها "مرئية".
خرجت من غرفة القياس وهي لا تزال مرتدية الفستان. وجدت البائع منتظراً على مسافة قليلة من حيث تقف. بدا متحمساً ليقول رأيه آملاً بإتمام صفقة البيع:
-  وااووو…c’est tres jolie … قلتلك رح يلبقلك. وإذا couleur مش عاجبك، في…

قاطعتْه قبل أن يكمل دون أن تستمع أو تهتم فعلاً بما قاله:
-  بعد بدي ست قطع متلو.
-  six؟؟؟
بدا مندهشاً جداً دون أن تخلو دهشته من سعادة مكبوتة لإنجاز مرتقب.
ردت عليه مكررة ما قالته سابقاً دون أن تعير انتباهاً لسعادته او لدهشته. فأجابها:
-  أوكي أوكي، شو القياس؟
-  نفس القياس.
-  آه، والـ couleurs؟
-  نفس اللون.
-  ست قطع نفس القياس ونفس اللون؟؟؟؟
قالها باستغراب شديد، لدرجة نطقه كل الجملة باللغة العربية فقط هذه المرة، كأنه يحتاج حذف المفردات الفرنسية لحذف الشّك. ردت ببطء شديد وبمبالغة بتضخيم الأحرف ومبالغة بإبراز حركة الشفاه كمن يرد على طفل صغير لشرح أمرٍ عصيٍّ على الفهم:
-  إيه نعم، نفس اللون ونفس القياس.
ثم كررت ما قالته تماماً وبذات الطريقة إنما بالفرنسية وبتعابير وجه حيادية:
-  Qui, la meme couleur, la meme taille
وأضافت:
-  D’accord؟
ثم أدارات له ظهرها مجدداً، ومشت وصولاً للمرآة الموجودة خارج غرفة القياس هرباً من أي استفسار أو ردٍّ أخيرٍ منه. استسلم البائع وعاد من حيث أتى ليحضر الفساتين.
أكملت تأمّلها للمرأة ذات القوى الخارقة في المرآة، قبل أن يعود البائع يقاطع تأملها:
-  تفضلي لقيتلك quatre robes
-  أربعة؟؟ بس أنا طلبت ستة.
-  بعرف بس ما بقى عنا إلا quatre pieces، أنت ما تفرجتي عالموديلات الباقية، في كتير فساتين حلوة وبتشبهو. وهيك أحسن، بلا ما تلبسي أنت وصاحباتك la meme robe… الصبايا عادة ما بيحبوا يلبس حدا متلهن…
كان يتحدث بسرعة كأنه خائف من أن تقاطعه فلا تسمح له بإكمال ما بدأ، شأن كل المرات السابقة خلال هذا اللقاء. وفي المقابل، كانت هي تنظر إليه يتحدث دون أن تقاطعه، فقط لأن لا طاقة لديها لتفعل ذلك. تركته بحيرته. دخلت وخلعت عنها الفستان وتركته يتهاوى على أرض الغرفة، دون أن تنظر إلى المرآة. ارتدت كل ما خلعته سابقاً وبنفس الترتيب: بنطلون الجينز، البلوزة الجديدة ذات اللون الخردلي والشرائط على الكتفين، وأخيراً حذاءها البرتقالي الرياضي. ثم مدت يدها اليسرى وأخذت حقيبتها بسرعة، في حين فتحت باب الغرفة بيدها اليمنى. وأثناء محاولتها تعليق الحقيبة على كتفها وقعت من يديها وتبعثر ما بداخلها على الأرض.
ركعت على إحدى ركبتيها لتلَّم ما وقع منها: عبوة صغيرة من معقم لليدين، علاّقة مفاتيح، دفتر ملاحظات صغير برتقالي اللون، نظارات شمسية بنية اللون، واحد وثلاثون قلم رصاص مبريٍّ بحدة مجموعين في حزمة واحدة بشريط مطاطي. فلتت بعض الأقلام من الحزمة وانتشرت أمامها، وأمام دهشة البائع الذي جاء مسرعاً، لكنه لم يتمكن من مساعدتها، فقد لمّتْ أغراضها وأقلامها ونفسها بسرعة، ثم خرجت بوجه متجهمٍ وخطوات كبيرة، ونظراتها منخفضة كأنها تراقب دعسات حذائها البرتقالي، ودون أن تلتفت حولها، دون أن ترضي فضوله أو ترد على أسئلتهِ المكتومة بشأن الفساتين الخمس، ودون أن تلاحظ نظراته المستغربة تجاهها، وهي تكرر بصوت منخفض جداً وأسنان مصطكّة: خمس فساتين لخمسة أيام، وشو بعمل باقي الأيام؟!! شو بعمل باقي الأيام؟!!
وقفتْ مجدداً أمام الواجهة، وضعت يدها على زجاجها وحط نظرها على الفستان الذي ظنت قبل ما يقارب النصف ساعة أنه سيجعلها محطّاً للأنظار. نقلت نظرها بحيرة بين صورة انعكاسها المشوه على زجاج الواجهة وبين فتيات ثلاث كن يمشين قربها بفساتينهن ويضحكن بصوت عالٍ.
انزلقت يدها شيئا فشيئاً عن الزجاج وهمّت بخطوات مسرعة وهي تعدّ من الواحد إلى العشرة.

 *كُتبت قصة "الفستان" أثناء إحدى ورشات كتابة بعنوان "قصص قصيرة في بيروت"

مقالات اخرى للكاتب

قص
21 أكتوبر 2019
شعر
7 أبريل 2017

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.