}

كحلمٍ شمسيٍّ

أمجد ناصر أمجد ناصر 6 يناير 2019
سير كحلمٍ شمسيٍّ
البيئة الصحراء السورية (Getty)

 

في قلب هذا الجفاف الوطيد تذكرتكَ. عرفتُ، بنزلةِ شمسٍ خفيفةٍ، من أين جاء وجهكَ. ولمن تنتمي نظراتك الحبيسة في تلك الأقفاص الخضراء! أن تكون هناك لا يعني أنك هناك بالضبط. ليس بخارطة الأنفاق يمتلك المرء مكاناً ولا بجلوسه في طبقة عُليا لحافلة حمراء يصبح مواطناً تلقائياً للمطر والهدير، إذ ثمة شيءٌ يبقى في الوجه. في لمعة العين. في خطوط اليد المبسوطة على المائدة. ثمة شيءٌ يخبئه اللسان تحت جملة أجنبية دارجة قد يكون كلمة السّر!

لم تتأكد مما عنته الشاعرة المتحدرة من بطنٍ عربيٍّ قديمٍ عندما كتبتْ إليك تلك الكلمات، أثناء زيارتها للبلاد التي غادرْتَها، خلسةً، وعدتَ إليها بجناحٍ تساقط منه ريش كثير. قد يكون ذلك تعريضاً مبطناً لم تلتقطه وفات أوان الرد عليه، أو لعلها مجازات الشعراء التي لا يعوَّل عليها كثيراً في فصل القمح عن الزؤان؟ أو ربما هو، حقاً، ما رأته فيك عينُ الشاعرة التي كأنها قالت إن أسلافها ينتمون إلى قبائل الصحراء. وجهُها، على ما تذكر، طالعٌ من حقل شعير. قد تكون سمراء. ذلك الوسم الشمسيّ المطبوع على الزند والترقوة. ولها، إن أردتَ ردَّ التحية بالمثل، نظراتُ  قبَّرةٍ حبيسة. أهي نظرات الكائن البشري في المدن الكبرى المطوقة بالكاميرات وأنصال الليزر والخوف من الغرباء، أم النظرات التي تبحث عن فضائها الأول الضائع دون جدوى؟ أنت، فعلاً، لا تدري. فالشاعرة المتحدرة من بطن عربي قديم لم توجد تقريباً. وتلك الرسالة لم تصلك إلاّ في حلمٍ أو ما يشبهه، وليس صعباً على ثلاثة، أو أربعة، يعرفونك أن يردوا حيرة كلماتها إليك.

 

 

 

 

لم تفكّر طويلاً بمغزى تلك الكلمات التي تشبه الشِّعر واللغز والحياة. احتفظتَ بها، هكذا، كطلسمٍ في رأسك. كوقعٍ خام. كحلمٍ شمسيٍّ مراودٍ. ستعاودك، بنبرتها الملتبسة، كل مرة تبدو فيها تلك الأرض، من نافذة طائرةٍ تبدأُ هبوطها التدريجيّ، بحراً من الصُفرة قلما تتخلله بقعة زرقاء أو خضراء. فها هو الجفاف الذي تذكرتك، في طقطقة هوائه وتحت لفح شمسه، شاعرةٌ في حلمٍ، أو ما يشبهه، لا يزال على حاله. ولكن هل تغيرت، تحت هذا الجفاف الوطيد، الكائنات والأشياء والاعتبارات؟ ما الذي تبقّى من ذلك البيت، من جوارٍ قديم، من البداوة والصحراء و"الأصالة" في أزمنة توحدها، عنوةً، علاماتٌ مسجلةٌ صارت إيقوناتٍ طائرةً  لعصرك اللاهث؟ أكانت تلك الصحراء، التي انحفرت طبوغرافيتها المضللة في أقدام طفولاتٍ حافيةٍ، صحراءَ فعلاً؟ بلا أثرٍ لحيواتٍ قديمةٍ في مدى يبدو لمن يراه، أول مرة، غير قابل للحياة والسُكنى؟

ستحاول، هنا، أن ترى وتتذكر وتحلم، فمن يعرف مونولوغاتك الطويلة سيتوقع، بلا شك، روائح كامنة وأشباحاً متراقصةً في خلفيتها. سيتوقع طرقاً وأبراجاً وبيوتاً مشرعة الأبواب وشاياً ونعنعاً وبرندات وحب هال وبناتٍ في مراييل مقلَّمة وبناطيل شارلستون وقمصاناً مشجَّرةً وأشجار كينا وأغنياتٍ تقطع نياط القلوب ومراهقين مضحكين وآباء قساة ومروءاتٍ مفتعلةٍ، ورائحة صابون معطر ورسائل لم تقرأ وأخرى لم تصل. إنه أمرٌ سيءٌ، لا أخفيك، أن تكون متوقَعاً إلى هذا الحد، بلا مفاجآت تُذكر. لكن لا تتزعزع كثيراً. حافظ على شيء من رباطة الجأش في وجه ملاحظةٍ محقةٍ لا تخلو من خبثٍ تعرف 

مقالات اخرى للكاتب

سير
6 يناير 2019
استعادات
30 ديسمبر 2018
شعر
23 ديسمبر 2018

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.