}

كلمةٌ عارية ترفل في مشيمةِ البياض

نجيب مبارك 11 سبتمبر 2018
قص كلمةٌ عارية ترفل في مشيمةِ البياض
لوحة للفنان عزيز أزغاي

 

أريد أن أتحوّل إلى تمثال

قال: أحتاج مساعدتك في أن أتحوّل إلى تمثال.

قلت: تتحوّل إلى تمثال؟ أنا لست نحّاتاً حتى أصنع لك تمثالاً.

قال: ليس تمثالاً من حجر أو من برونز بالضرورة.

قلت: وأي تمثال تقصد إذن؟

قال: أريد أن أظلّ كما أنا، لكن بلا حياة. أريد أي أتحوّل إلى تمثال حقيقي، إلى جماد خالص بلا روح. لقد فقدتُ الأمل تماماً في العودة إلى حياة البشر، مثلما يئستُ من محاولة الرجوع إلى راحة الموت. الطرق كلّها مقطوعة بالمتاريس، والأبواب مغلقة ومحصّنة جيّداً، ويقف عليها حراس غلاظ مدجّجون بالسيوف والكلاشينكوف.

قلت (مقاطعاً): هذا طبيعي. إنها الثورة.

قال: ومتى ستنتهي الثورة؟

قلت: علمي علمك. يبدو أن الأمور لن تستقرّ في المدى المنظور.

قال: طيّب. وماذا عن التمثال؟

قلت: المشكل ليس في تحويلك إلى تمثال. المشكل هو أين سيوضع التمثال، في أي مكان وفي أيّ ساحة، في هذا الجانب أم في الجانب الآخر؟ إذا نُصب هنا سيهدمه الثوّار الأحياء، وإذا نُصب هناك سيهدمه الثوّار الأموات. الثوّار في كلّ مكان يهدمون التماثيل.

قال: وماذا تقترح؟

قلت: أقترح أن تحرقَ إلى إسبانيا، هناك ستعثر بسهولة على نحات يمكنه القيام بتحويلك إلى تمثال. الأوروبيون عموماً يحترمون المنحوتات، ولا أحد يتجرّأ على هدم تمثال.

قال: أنت تعلم أنني لا يمكن أن أنزل البحر أو أركب الطائرات. فكيف أصل إلى هناك؟

قلت: الأمر صعبٌ قليلاً لكنه ليس مستحيلاً. توجّه شرقاً نحو الحدود، واعبر مشياً على الأقدام ممرّ "زوج بغال". ثم اخترق دول المغرب العربي إلى مصر، ومن هناك إلى فلسطين ولبنان وسورية لتصل إلى تركيا، واعبر الجسر بين آسيا وأوروبا، ثم اهبط إلى دول البلقان واليونان وإيطاليا عبر الجنوب، وتوجّه بعدها شمالاً إلى أن تصل إسبانيا. ستكون قد أوشكت على طواف شبه كامل حول المتوسّط، من دون أن تدخل غمار البحر، أو تلمسك قطرة واحدة من الملح.

قال: هذه فكرة جيدة. شكراً لك صديقي الروبوت العزيز.

قلت: لا شكر بين الإنس-آلات صديقي الشبح الطيّب.

***

 

كلمةٌ عارية ترفل في مشيمة البياض

منذ التاسعة صباحاً والحفّار يعمل. لا يشغل باله هذا الكمّ من الهدير المزعج الذي تصدره آلته الهدّامة. يعمل في انسجام تام مع ذاته المحصّنة ضدّ المعاول، في اتّساق كامل مع ضجيجه الخاص، ولا تهمّه راحة من يصلهُ هذا التخريب المزعج على مضض، مريضاً كان أو معافى. مَن لم يستيقظ بعد فنجان قهوة ستوقظه الضجة الهائلة رغما عنه. ستهزّه من غفوه وتقتلعه من سريره بعنف أصواتُ الردم والخلع وتكسير الحيطان، كأنها على بعد سنتمتر من الأذن، ومسموعة بوضوح من الداخل. تتوقع أن يهدأ قليلاً فلا يزيد إلا زمجرة أكثر فأكثر مثل كلب مسعور ينبح في قعر بئر واسع. يرتطم صداه بالجدران فيحدث شقوقاً وتصدعات، قد تتلوها انهيارات ضخمة لو استمرّت بهذه الوتيرة، كما لو أنّها كرة ثلج تتدحرج في أحلامك، ولن تتوقّف إلّا إذا صمت كل شيء، فيكون الزمن قد سال طويلاً والنهار قد ضاع.

تردّد مع نفسك: "عاجلاً أم آجلاً، سينتهي كلّ شيء، ويتوقّف هذا الجنون". لكن لا. لم يتوقّف أيّ شيء. وإذا توقّف سيكون الأوان قد فات، والسقف تداعى بالكامل فوق رأسك ودفنك إلى الأبد. وربما قد تتساءل من تحت الأنقاض: كيف تحوّل نهار خريفي جميل بأكمله إلى خرائب في رمشة عين ولا من منقذ أو رحيم؟ مع ذلك، استمرّ الحفار في العمل، لوقت أطول مما تخيّلت، ونزل ضجيجه عبر السقف إلى غرفتك أكثر فأكثر، وبصخبٍ أقوى من السابق، وأنتَ كنت تحاول كتابة قصيدة بلا عنوان.

لم تكن مباراة متكافئة في الحفر، ومع ذلك لم يكن هناك مجال لأيّ هدنة. قصفُه لم يستسلم في النهاية، وضربات معوله فضحت هشاشة العالم بإصرارٍ عنيف وقاس. ومنذ لحظات فقط، سقط آخر حجر من الحائط الذي كان يفصل بينك وبينه، وسقط بالضبط على يمين الكرسي حيث تجلس. ثمّ لم تشعر إلا بضربة واحدة، خاطفة ومركّزة، تهوي من مكان ما أعلاك، وتخطئ رأسك بأعجوبة. وحين تطلّعت مندهشاً ومرعوباً إلى ما بين يديك، اكتشفتَ أنها حصدت ببشاعة أجمل كلمة في مسوّدة القصيدة، تلك الكلمة-الجنين الأصغر من ذرّة رمل، والتي منذ أيام وهي ترفل عارية في مشيمة البياض.

 

***

شُرفات أوسع من الشاشات

من الأفضل أن تكونَ جالساً الآن على شُرفة، بل من الأفضل دائماً أن تجلس على شرفة، في الصّيف أو في الشتاء، في الرّبيع أو في الخريف، لأنّ مَن لا شرفة له لا فكرة له، ومن لا فكرة له ضاعت حياته في جُغمة ماء. ليس ضرورياً أن تطلّ على البحر مثلاً، أو تفتح صدرَك للنّهر، أو يطوّقك ملعبُ غولف من كلّ الجهات. يكفي ارتفاعٌ طفيف عن الأرض، شرط أن يسمح بتمويهِ الجاذبية قليلاً، وإسقاطِ أكثر من نظرةٍ على العالم بشكلٍ مريح. سدّةٌ صغيرة مُهملة، حتى لو كانت غارقة في الكراكيب، أو سطيحة فارغة بلا سقف، لا يهمّ شكلُها ولا بناؤها، قد تفي بالغرض.

لكن، ماذا يفعل من لا يملك شرفة، في البيت أو في العمل؟ الجواب: عليه أن ينزع النظّارات (الطبية أو الشمسية لا يهم) من فوق عينيه، ويجدَع أنفَه قليلاً بسكّين، ولو مليمتراتٍ فقط، وها هي شرفةٌ أمامه باتّساعِ ترمينال مطار محمّد الخامس الدولي. شرفة تكفي لترحيل أكثر من حياة سرية على دفعات. أي، باختصار، على كلّ واحدٍ منّا، في لحظةٍ من لحظات حياته الرتيبة، أن يجدَ شرفته الخاصّة بأيّ ثمن، وإن لم يستطع، عليه أن يحلم بها على الأقلّ، ليلَ نهار، مثلما يفعل الأطفال، الّذين يحلمون كلّ يوم، وكلّ ساعة، بشرفاتٍ أوسع من الشاشات، رغم أنّ وقتاً طويلاً أمامهم، ومرايا شيطانية كثيرة ستكبُر معهم، وتتّسع بلا حدود.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.