}

هيا بنا نرقـص (1)

كمال عبد اللطيف كمال عبد اللطيف 20 أغسطس 2018
سير هيا بنا نرقـص (1)
لوحة للفنان السوري سبهان آدم
 

1 - تسألني رجلي قائلة : كتبت ذات يوم عن يدك اليمنى وما أصابها من داء،  كما كتبت عن لسانك وما اعترى نطقك لبعض الأحرف من صعوبات، ويبدو لي أنك نسيت أن رجلك أصيبت أيضاً، وأن إصابتها تماثل ما لحق يَدَكَ ولسانك. فقد شملت وعكتك الصحية بصورة عامة، نصفك الأيمن بدرجات، إلا أنك اكتفيت بالحديث عن مواجع اليد واللِّسان..

 اعتلت الرجل اليمنى، كما اعتلت اليد والأصابع والكتف.. اعتلت الأعضاء بمفاصلها وحواملها، ومختلف مكوناتها العظمية والعضلية والعصبية. ولحق العطب الرجل بساقها وبما هو أعلى الساق، بل إنه شمل مجموع أعضاء النصف الأيمن في الجسم، ما ظهر منه وما خفي.

أَدركتُ وأنا أستمع إلى سؤال رجلي اليمنى، في موضوع التقصير الذي لحقها مني، أنها محقة فيما تسأل عنه. كما أدركت أنني ربما أغفلت ذلك قصداً، بحكم أن ما أصاب رجلي من شلل جزئي، تخلصت من بعض آثاره في وقت قصير مقارنةً مع حال يدي. ويبدو لي أنني حاولت في غمرة ما لحقني من مصاب، تناسي ما لحق طريقة سيري من بطء وتعثر، لم أستطع التخلص منهما إلى حدود هذه اللحظة، رغم وقوفي وتحركي المستقلين..

في بداية الحكاية، سقطت اليد اليمنى قبل الرجل بيوم كامل، وأصابني ما أصابني من عِلَلٍ أخرى، أبرزها ثقل اللسان ووهن العظم والعضل. وأهم من ذلك، الإحساس الباطني العميق بالوهن، الذي صاحب الإصابة، أي انتقال جسمي من وضع إلى وضع، حيث أصبحت أتحرك وأتحدث ببطء، وقد كنت بالأمس القريب، أمشي وأجري مغمض العينين، وأتحدث بطلاقة لا يعتريها تلكؤ.. بل أذكر جيداً، وكأن الأمر ينتمي إلى زمن آخر، أنني كنت فيما مضى طليق اللسان، قادراً على التلفظ بالعبارات الراقصة والطائرة، وذلك لعشقي وشغفي الكبيرين بمخزونات وذخائر اللغة العربية وآدابها. وبعد إصابتي، كنت أحاول تجاوز أعطاب اللسان، فأجد صعوبة كبيرة في بلوغ المراد. وينتابني من جراء المحاولة عياء كبي، يصل أحياناً، وخاصة ر في الأشهر الأولى للإصابة، درجة العجز عن النطق ببعض الأحرف والكلمات. ولم أكن أدري هل يتعلق الأمر بإصابة النصف الأيمن من اللسان، أم أن الإصابة لحقت وظيفة اللسان، ودوره في الكلام وترتيب مخارج الحروف، أثناء عمليات تصريف النطق وبناء الملفوظات.

 هناك أمر مثير في كل هذا الذي حصل، فقد قَبِلت بالأمر الواقع دون خشية ودون سؤال، وكأن المسألة تَتعلق بمهمة أنيطت بي. وما شجعني على ذلك، هو أن ما أصابني تَمَّ بصورة مفاجئة وسريعة، ودون ألم موضعي. وخارج الإحساس العام والعميق بالوهن، بقيت أسمع وأفكر وأتذكر، وأمشي في الأسواق كما كنت، وإن اتخذت طريقة سيري مواصفات جديدة..

وجدت نفسي في صباح اليوم التالي للإصابة، غير قادر على الوقوف والمشي، إلا بمساعدة الآخرين أولاً، ثم المشي البطيء بعد ذلك. وترتب عن ذلك، أن حركة وقوفي لم تعد مستقلَّةً، فقد أصبحت أمشي بمساعدة الآخرين، وأنا الذي كنت أمشي كما تمشي بقية الكائنات الحية.

اعتبرت أن ما حصل لرجلي اليمنى أمراً طَريفاً ومُسليّاً في الآن نفسه، رغم أنني أصبحت مقعداً. وخلال مدة قصيرة، و بفعل تمارين مكثفة في الترويض الطبيعي، استعدت قدرتي أولاً على الوقوف مستقلاً، ثم المشي المستند إلى عكاز في مرحلة ثانية، ثم المشي البطيء في مرحلة ثالثة.. وقد بدا لي أن ما حصل كان غريبا، ووجه غرابته يتمثل في كوني أصبحت أمشي بطريقة مختلفة، أصبحت أمشي بعد تَوقُّفٍ دام ما يقرب من شهر.. وكأن هذا الذي لحقني، ترك آثاره في أعضاء المشي والحركة ثم اختفى، حضر وأَلحقَ بي أعطاباً معينة في الحركة، والوقوف والمشي، وفي الكلام، ثم اختفى.

 2 - استعدت في البداية قدرتي على المشي، إلاَّ أني اكتشفت أنني لا أستطيع السير بسرعة، فقد أصبحت أتحرك ببطء بَطِيء، لكنني أتحرك.. أصابني في اليوم الأول لعودة الحركة إلى رجلي، وقدرتها على حمل جسدي إحساس بفقدان التوازن عند الوقوف، حيث كان ينتابني إحساس يجعلني أشعر بأنني غير قادر على الوقوف بشكل متوازن، كما يقف الواقفون في العادة. لقد أصبحت معرضاً للتمايل، الأمر الذي يدفعني إلى نوع من التركيز أثناء الوقوف وأثناء السير، تركيز لا نحتاجه في العادة عندما نتعلم المشي ثم نمشي. وقد نجم عن انعدام القدرة على المشي خلال ما يقرب من شهر، أنني فقدت القدرة على الوقوف من أجل الانطلاق في عملية المشي.

اكتشفت بعد ذلك، أن طريقتي في المشي لن تعرف التوازن المطلوب إلا باللجوء إلى عملية إسناد، وأن هذه الأخيرة تتطلب الاتكاء على عكاز. وقد تذكرت في غمرة كل ما أصابني أنني أمتلك  عكازاً، اشتريته لوالدي عندما بلغ به العجز مبلغاً قَصِيًّا، فكان يتكئ عليه ليُصَحِّح طريقته في المشي، واحتفظت به لنفسي بعد وفاته. ولم يخطر ببالي في أي وقت من الأوقات، أنه سيصبح ذات يوم أداة تساعدني في عملية المشي، في ضبط التوازن عند الوقوف، كما سيمنحني فرصة لمشاركة والدي في استعمال أداة استعان بها على تحسين طريقة سيره ذات يوم. وقد جعلني هذا الأمر، أسترجع بعض صور علاقتي بالوَالدِ، وهو الأمر الذي كنت قد فقدته منذ زمان.. وذلك تحت تأثير ما يفعله الزمان بنا في رحلة العمر، المليئة بالأحلام، والمليئة أيضاً  بمزايا النسيان..

 أصبحت أسير مستعينا بعكاز والدي، من أجل توازن أَضمن، وطريقة في المشي أَسلم. وخلال مدة أسبوع كامل، كان لا يمكنني أن أتحرك دون استعمال هذه الوسيلة، فاسترجعت بالتدريب البطيء بعضاً من توازني، وأصبحت طريقتي في المشي متوازنة. استعدت قدرتي على المشي، وقلت لنفسي، لكل زمان طريقته في الخطو والمشي. وفي هذه اللحظة بالذات، كانت يدي على خلاف ما حصل من تَحسُّن في رجلي اليمنى ما تزال كما هي.. فكيف لي أن أتحدث عن رجلي، وقد استعادت عافيتها مقارنة مع حال يدي؟

كان تطور وضع اليد بطيئاً، وقد مر على المصاب سنوات عديدة، وها أنذا أقترب من إكمال السنة العاشرة.. فهل تدري الرِّجل الآن، لماذا نسيتها وتحدثت عن اليد وحدها،  واصفاً من خلال ما لحقها بعضاً من مواجع دماغي المسلية؟

قد يكون في السرد السابق، ما يشير إلى معطيات متصلة برجلي وما أصابها، إلا أنني أغفلت  الإشارة إلى قابليتي اليوم للسقوط أثناء عملية المشي، واستمرار هذه البَلِيَّة رغم التحسن، الذي حققته رجلي مقارنة مع يوم حصول ما حصل.. أريد التأكيد هنا، على أمر أساسي، يتعلق بظاهرة تعثري أثناء المشي، ففي الأيام الأولى لإصابتي، كنت أصاب ببعض التعثر أثناء  الحركة، ومن حسن حظي أنني سقطت مرات قليلة.. كانت تنتابني عند السقوط لحظات بكاء حارة وعابرة، بحكم خوفي من تكرار عملية السقوط المفاجئ، وأحياناً كنت أبكي خوفاً من السقوط ودون حصوله، وذلك رغم  أنني عودت نفسي على الضحك من عثراتي، ودَرَّبْتها في الآن نفسه، على لزوم الاحتراس واليقظة، والسير في الطرقات المعبدة والآمنة. لكن من أين لي دائماً بالطرق المعبَّدة والآمنة؟

نبهتني العثرات اليومية إلى طريقة سيري الجديدة، واستوعبت بعض مظاهر النقص في طريقة رَفْعِ رجلي وثَنْيِ ركبتي، وهما معا من الأفعال  التي نمارسها في المشي، دون أن نفكر فيها لأنها أفعال وظيفية مرتبطة بنظام تركيب الرجل. ولأن عطالة الرِّجل ترتبط بحصول ارتخاء في العضلات، تترتَّب عنه عدم القدرة على رفع الرجل وثنيها، وهو ما يؤدي في حال عدم استواء سطح الطريق، إلى إمكانية التعثر والسقوط. وقد أصبحت بفعل ما حصل، أمشي بحساب، أقيس وقع خطواتي، أبتسم حين أتعثر، وأتابع سيري بحذر، كنت أمارس تمارين جديدة في تعلم المشي مجدداً.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.