}

كرةُ القدمِ ودمشق

مناهل السهوي 18 يونيو 2018
يوميات كرةُ القدمِ ودمشق
لوحة للفنان شوقي عزت

لا يلزم الطريق إلى دمشق سوى حفنةٍ من بذور دوّار الشمس المحمّص مع الملح وحديث طفلين يتخيلان دمشق قريبة، كأن تكون في الحي التالي، أو في الشقّة المجاورة، تساءلتُ هل يعرفان أن دمشق مدينة أم يتخيلان أنها منزلٌ أو كومة حجارةٍ؟ أعلم أن الشخصيات اللامبالية هي جزءٌ من هذه المدن كأن لا تلتفت الأم لطفليها وهما يأكلان بذور دوار الشمس في المقعد الخلفي ويتشاوران حول المدينة القادمة، وددتُ لو سألتها أن أجلس قربهما وننتظر مرور دمشق من شباك الباص!.

بعد خمس دقائق من انطلاقنا صرخ أحد الطفلين "هل وصلنا دمشق؟" مشيراً إلى طابور ينتظر أمام فرن الخبز، فرد أخوه لا لم نصل، صمت الصغير وناول جدته التي تجلس قربي حفنةً من بذور دوّار الشمس، بعد برهة واجهنا جبلاً بركانياً فصرخ مجدداً "وصلنا دمشق؟" فرد الأكبر لا لم نصل، ثم تحولت دمشق إلى حفرةٍ كبيرة وحاجزٍ عسكري حتى أنه صرخ نحو قطيع من الأغنام "هل وصلنا دمشق؟" فهدده أخوه بأنه لن يقول له متى وصلوا إن بقي يسأل هكذا، يبدو أنها المرة الأولى التي يذهب فيها الصغيران إلى دمشق معتقدين أنها تبعد بضعة أمتار وحسب، أراهن أن الكبير لا يعرف أيضاً متى سيصلون دمشق، وأنه يحب لعب دور العارف فقط.

راحت حقول دوّار الشمس في فم الطفلين تصيبني برغبة في رؤية الشمس، في تتبع أثر الظلال وفي إنهاء امتحان اليوم على خيرٍ، حاولت تجاهلهما ومراجعة رواية الطاعون: الطاعون كالحرب يمكن أن يحدث في أي وقت وفي أي مدينة لينتهي فجأة، يأخذ معه الطيبين والسيئين، الكبار والصغار، الطاعون كالحرب لا يميز بين أحد، الحروب تجعلنا نعتقد أن المدن قريبة جداً أو العكس تماماً، هي مجرد اعتقاداتٍ لا طائلَ منها، فلطالما تربص بنا عبثُ الأوبئة والحروب من خلف شبابيك باصٍ يشقّ طُرقَ بلادٍ مشبعة بالموت، لمَ الموت الآن! لمَ لا أركض بين حقول عباد الشمس وأنادي الطفلين البليدين ليتعرفا إلى الخيال المطلق، لن أدرّسهما الطاعون فهما صغيران على فهم روايات الموت المجاني، سنكتب قصة صغيرة عن الطفل المشاكس الذي يبحث عن دمشق، دمشق التي تحولت لزهرة عبّاد الشمس.

نترك رواية الطاعون جانباً ونلعب جميعاً كرة القدم أنا والطفلين وكاتبها، أسدد الكرة نحو شِبَاك البير كامو فيصدّها، يصرخ من أمام المرمى "أنا حارسٌ أفضل من كوني كاتباً، لا تحاولي عبثاً" فأقرر أن اتخلى عن الطاعون وأكتب على ورقة الامتحان تاريخ كامو الكروي مع منتخب الجزائر، جميع الكرات التي تمكن من صدها وتحليلي لكلّ المباريات التي لعبها، تهديد جدته له إن عاد وحذاؤه ممزق، بسبب هذا الحذاء وقف حارس مرمى تحت ضغط جدته، فحارس المرمى وحده من يبقى حذاؤه جديداً! في بعض الأحيان نصبح حرّاس مرمى بسبب جدة أو نكتب بسبب عائلاتنا، أتساءل لمَ أكتب عن الطاعون بينما كامو يقف بثقة أمام المرمى ويصدّ جميع كراتي؟

- تعلمي أن تضربي نحو الجهة التي لا يتوقعها الحارس؟

- كيف أعرف الجهة إن كان الحارس أيضاً لا يتوقع الجهة التي سأضرب منها؟

- إذاً عودي للكتابة وحسب!

يوقظني صوت الطفل يصرخ مجدداً "هذه دمشق؟"، مشيراً إلى شاحنة تحمل دبابة لكن الكبير تابع التهام عباد الشمس دون أن يجيبه، مرت دبابة أخرى فصرخ الطفل "وااااو"، وددتُ لو قلت له نعم "واااو" كم تبدو دمشق جميلة!، تابعتُ الدبابة المبتعدة بنظري حتى اختفت، كان صراخ الطفل يتحول شيئاً فشيئاً إلى شكلٍ من أشكال تشجيع كرة القدم حين توشك الكرة على الدخول لكنها لا تفعل، وتتحول كلمة دمشق إلى "غوووووول" لكن صمتاً يأكل فمه بعدها، وكأنّه لم يصل دمشق وكأن هدفاً آخر مرّ فوق العارضة، والبير كامو ينتظر مني أن أُخرِج  روايته وأعيد بعض المقاطع المهمة، مردداً "لو لم أمرض، لو كنت فقط أملك ثمن حذاء لكنتُ أصبحت لاعباً ولم تكوني الآن تذاكرين روايتي"، ينهي حديثه قائلاً: "لا نملك كرات أخرى"، هكذا يُنهي تاريخي الكروي القصير الممتد من مدينتي حتى دمشق، هكذا ببساطة اتخلى باكراً عن كرة القدم بنصيحة من البير كامو لأن التفكير الطويل بما يحاول الخصم توقعه منّا يجعلنا مهزومين مسبقاً أما الكتابة فهي عادلة لأن لا خصم أمامنا سوانا، تردد الأم من خلفي هيّا وصلنا، لا يعلّق أيّ من الطفلين على وصولهما دمشق، يحمل أحدهما كيس دوّار الشمس، أحمل رواية الطاعون كذلك وأنزل، لا مرمى ولا كرةً تدحرج أمامي ففي النهاية لا يوجد كاتب ترك الكتابة ولعب كرة القدم لكن يوجد لاعب ترك الكرة وكتب.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.