}

بيسوا في باريس

نور الدين محقق 5 يونيو 2018
يوميات بيسوا في باريس
فرناندو بيسوا
* بيسوا في الحي اللاتيني:

يأخذني الحديث عن الكاتب البرتغالي الشهير فرناندو بيسوا، إلى لحظات مستعادة من زمن بهي مضى على بعضه وقت طويل، ولم يمض على البعض الآخر منه سوى وقت ليس ببعيد، على كل حال. لحظات مرت في رحاب المكتبات، لاسيما منها تلك التي تبيع كتبا مستعملة، سواء هنا في مدينة الدار البيضاء أو هناك في مدينة باريس. هكذا وأنا أمر ذات سفر إلى مدينة باريس متنزها بصحبة ابني، في الحي اللاتيني، لفت انتباهي تجمّع بعض المارة حول إحدى المكتبات الكبرى، تبيع كتبا مستعملة بأثمان مناسبة جدا تتراوح بين اليورو الواحد واليوروين. ذهبت إليها متشوقا لما تحتضنه من كتب قد يكون البعض منها نادرا بالنسبة لي، وانغمست في عملية تقليب الكتب وقراءة عناوينها والنظر في بعض الصفحات منها، أو الاكتفاء بقراءة فهارسها، لأعرف محتوياتها العامة. وجدث كتبا عديدة كنت أملكها، ووجدت كتبا عادية لم تثر فضولي لاقتنائها والدخول إلى عوالمها، ووجدت في المقابل كتبا أخرى شدتني بقوة إليها، ومنها "كتاب اللاطمأنينة" للكاتب البرتغالي الشهير فرناندو بيسوا.

شعرت لحظتها بفرحة عارمة تهزني وأنا أرى نسخة من هذا الكتاب في طبعته الفرنسية الأولى، فلم أتردد في اقتنائه، بالرغم من أنني قد عثرت فقط على الجزء الأول منه من دون أن أجد الجزء الثاني، رغم بحثي الذي طال عنه إلى حدود أن نبهني ابني إلى مضي الوقت. فما كان مني سوى أن سألت المشرف على المكتبة عنه، فقال لي إنه كان هنا من قبل وربما قد اشتراه أحد جاء قبلي.

غادرت المكتبة بعد أن أديت ثمن الكتاب، وتوجهت بصحبة ابني إلى أقرب مقهى هناك. وبعد أن قضينا وقتا ممتعا في الحديث عن هذا الكتاب، طلبت من ابني أن يأخذ لي صورة وأنا منغمس في عملية تصفّحه، وهو ما كان. هي بالطبع صورة للذكرى ليس إلا. فأن تقرأ كتابا لفرناندو بيسوا في أحد مقاهي باريس الشهيرة هي لذة أخرى من لذات الحياة بالنسبة للمهووسين بالقراءة مثلي، وأن يكون هذا الكتاب بالضبط هو "كتاب اللاطمأنينة" في طبعته الفرنسية الأصلية الأولى، فتلك لحظة لا يمكن أن تنسى بسهولة.

في الفندق حيث كنت أقيم، قضيت الليل إلا أقله وأنا أقرأ هذا الكتاب. لحظات رائعة لا يمكن نسيانها وأنا أغوص في عوالمه المذهلة. وقررت أن أبحث عن الجزء الثاني منه في صباح اليوم الموالي في كل مكتبات باريس، علّني أجده ولو في طبعة أخرى مختلفة.

 

* بيسوا في متحف اللوفر:

في صباح اليوم الموالي، لم أذهب للبحث عن هذا الجزء الثاني الذي كان ينقصني من هذا الكتاب، "كتاب اللاطمأنينة" لفرناندو بيسوا، كما كان متوقعا، بل ذهبتُ، وهذه المرة كنت وحدي، لزيارة متحف اللوفر من جديد. فكلما زرت مدينة باريس كانت الموناليزا تدعوني إلى زيارتها. هي البعيدة هناك في علوها، معلقة على جدارها، ووحيدة تنتظر عشاقها من كل أنحاء العالم.

هكذا حملتُ "كتاب اللاطمأنينة " معي كي أطمئن عليه، وذهبت إلى متحف اللوفر لأرى أجمل لوحات العالم فيه. في مدخل اللوفر وجدت أناسا كثيرين ينتظرون دورهم مثلي، للولوج إليه. جلست في مكان بالقرب من الهرم الفرنسي المبني في مدخل اللوفر، وطلبت من إحدى الحسناوات الفرنسيات أن تأخذ لي صورة. أخذت لي أكثر من صورة وطلبت مني رؤية هذه الصور ليطمئن قلبي عليها. ابتسمت لها وأنا أتفحص هذه الصور على شاشة هاتفي المحمول، وطلبت منها أن آخذ لها صورة للذكرى إن رغبت هي الأخرى في ذلك. مدت لي هاتفها المحمول وهي تبتسم. وبعد أن أريتها الصورة التي أخذتها لها، وكانت رائعة بالفعل، شكرتني وحاولت الانصراف، ثم ما لبثت أن سألتني عن عنوان الكتاب الذي كنت أحمله فأخبرتها به. ثم جرّنا الحديث عن صاحبه فرناندو بيسوا، وولجنا بعد ذلك إلى متحف اللوفر وكأننا نعرف بعضنا منذ فترة طويلة. هكذا نسيت زيارة الموناليزا، وأنا أتجول مع الموناليزا الأخرى التي كانت بجانبي، والتي فضلت أن نذهب إلى الطابق المخصص للحضارة الفرعونية كي نراها على مهل، لأنها تريد أن تكتب دراسة عنها، واعدة إياي بالمناسبة بأن تعود معي في اليوم الموالي لرؤية الموناليزا وأخذ صور لنا معا صحبتها.
 

*بيسوا في محطة القطار:

في محطة القطار المتوجه من مدينة باريس إلى مدينة كاين، كان "كتاب اللاطمأنينة" لفرناندو بيسوا معي. كنت أقرأ فيه من حين لآخر، وأنا أتمعن في ذات الوقت سحر المكان وقت الغروب. ومدينة باريس تأخذ زينتها الليلية في كامل أناقتها البهية الساحرة. قرأتُ بعض الصفحات منه، وتمعنت فيما ورد فيها من أفكار قوية حول الكتابة والحياة. وحين جاء القطار صعدت إليه متعبا بعد نهار طويل في التجوال وزيارة الأماكن الباريسية التي تستهويني كلما جئت زائرا إلى هذه المدينة. في القطار وأنا أجلس قرب النافذة، شعرت بلذة كبيرة في النوم. حلمت أثناء نومي الذي امتد ساعة من الزمن بأنني واحد من السلالة الرمزية لشجرة الكتابة الكونية، وأن هذا الكاتب البرتغالي الكبير، فرناندو بيسوا، صحبة الكاتب الأرجنتيني الشهير خورخي لويس بورخيس، والكاتب الإيطالي الألمعي أمبرتو إيكو، ينتمون إليها طبعا، وأنهم قد أضافوا أغصانا هامة إلى أغصانها السابقة الموغلة في الزمن وتركوها للذين قد يأتون من بعدهم من كتاب، وأنا واحد منهم، ليقرؤوها بمحبة وليضيفوا إليها من كتاباتهم ما يريدون ويرغبون فيه.

حين وصل القطار إلى مدينة كاين نزلت منه وأنا بين اليقظة والنوم، وحين وصلت إلى البيت، تذكرت لحظتها أنني قد نسيت كتاب فرناندو بيسوا في القطار ...!

مقالات اخرى للكاتب

شعر
6 مايو 2023
يوميات
5 يونيو 2018
يوميات
16 مايو 2018

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.