}

الأَسلاكُ الشّائكة

إسكندر نعمة 1 يونيو 2018
قص الأَسلاكُ الشّائكة
لوحة للفنان الاميركي جاسكون بولوك
 

  رنَّ جرسُ الهاتف.  كنتُ في مكتبي أُراجعُ بعض الموادّ الأَدبيّة المُخصَّصة للعدد القادم.  عددُ المجلّة الحاليّ سيُطبَعُ الّليلة، وستصدرُ المجلّةُ غداً. 

مدَدْتُ إلى الهاتف يداً كسولةً.  كنتُ ما أَزال أُتابع قراءَةَ الموادِّ على مهل.  على الطّرف الآخر كان رئيسُ التّحرير.  قالَ لي بلطفه المعهود، وبكلِّ ما يملكُ من دماثةٍ واحترام : " أرجو أن أراك الآن في مكتبي.  لا تتأَخّرْ، فالأمرُ لا يقتضي التّأْجيل ". 

لملمتُ أوراقي، وغادرتُ مكتبي سريعاً.  جلسْتُ قربَ الطّاولة العريضة في مُواجهة رئيس التّحرير. في الزّاوية الأُخرى كانت الزّميلةُ سُها تجلسُ مستغرقةً في قراءَة شيءٍ ما بين يديها.  نظرتُ إلى رئيس التّحرير.  تبادلْنا نظراتٍ مشحونةً بالتَّساؤُل.  طالَ الصّمتُ بيننا.  أخيراً خرج رئيسُ التّحرير عن صمته وقال :

-  أستاذ فارس... يؤْسفُني أن أبلغَكَ أنّنا مُضطرّون لأن نسحبَ من موادّ المجلّة الحاليّة قصّتَكَ المُعنونة: "إلى أين". 

فوجئْتُ.  تسمَّرَتْ نظراتي على وجههِ.  عادَ الصَّمتُ سيِّدَ الموقف بيننا.  الزّميلةُ سُها كانت ما تزالُ تُتابعُ القراءَة وتختلسُ منّي بين الفينة والأُخرى نظَراتٍ سريعةً حادَّة.  سأَلتُهُ بكلِّ هدوءٍ وبرود أَعصاب:

- ولكن... لِماذا ؟! .

-لا تسأَلْ... أنتَ تعرف.  وأنا أعرف.  المجلّةُ الآن في طريقها إلى المطبعة، ولا وقتَ لدينا للمناقشة.  قد تكون القصّةُ سبباً في عرقلة مسيرة المجلّة.  أرجو أن تتفهَّمني.

- أتفهّمُ ماذا ؟؟.  أَيُّ خطرٍ من قصّة تحملُ فكرتَها، وتعبِّرُ عن رؤْيةِ كاتبها؟!.

كانت الزّميلةُ سُها قد انتهت من القراءِة، ودفعتِ الأَوراقَ إلى رئيس التّحرير.  التَفتَتْ إليَّ وبكلِّ ما تملكُ من جدّيّةٍ وحصافةٍ وقالتْ :

   -القصّةُ مُمْتعةٌ جدّاً.  مُشوِّقة.  نسيجُها الحكائيُّ مُتقَنٌ وجميل، وأَفكارُها عميقة.  ولكن.  ولكن.  لسْتُ أَدري...

حاولتُ أَن اُتابعَ الحوارَ معَها.  إلاّ أَنّها، سرعان ما اعتذَرَتْ لِأَنّها على موعدٍ يضطرُّها للمغادرة فوراً. 

بقيتُ في مواجهةِ رئيس التّحرير.  كانت نظراتُهُ تنمُّ عن الرّجاءِ بِأَن أُوافقَ على حذفِ القصّة من موادِّ المجلّة.  قال بما يشبهُ الهمس :

-  استاذ فارس... أنتَ قاصٌّ معروف.  قصصُكَ تلقى إِعجابَ القُرّاءِ.  ولكن.  لِيَكُنْ همَّنا أَنتَ وأَنا مستقبلُ المجلّة وسيْرورتُها.  قصّتُكَ خطرة. لن تعجبَهم!. أنا متأَكِّدُ من ذلك، وأخشى على مصير المجلّة.

    وقفتُ في مواجهة رئيس التّحرير.  اقتربْتُ منه أَكثر.  قلتُ له بكلِّ جدِّيَّة ورصانة :

- أَنا مسؤُولٌ عن الزّاوية الأَدبيّة في المجلّة.  وأَنا مسؤُولٌ عن قصّتي وتداعياتِها، فلا تخْشَ شيئاً.  أجابني بانفعالٍ :

- والمجلّة.. ومسؤُوليَّتي أَنا؟ .

أَشرتُ إلى الملاحظة المكرّرَة في أسفل الصَّفحة الأُولى من المجلّة : " الموادُّ الواردة تُعبِّرُ عن رأْيِ كاتبِها.  ولا مسؤُوليّةَ لإِدارة المجلّة عن آراءِ الكتّاب ". ثمَّ أَردفْتُ بتصميم:

   - أنا مسؤُولٌ عن قصَّتي.  ولا رأْيَ لي غير ذلك

صمتَ رئيسُ التّحرير طويلاً، وهو يحدِّقُ بي.  هزَّ برأْسه، ثمّ قال أَخيراً بصوتٍ مُتهدِّج:

-المجلّةُ الآن في طريقِها إلى الطِّباعة.  وغداً صباحاً ستُوزَّع.  ولْيكن ما يكون. 

غادرْتُ مكتبِ رئيس التّحرير شاكراً، وعدْتُ إلى مكتبي.  إلاّ أَنّني لم أستطع مُتابعةَ العمل. حزمتُ حقيبتي وعُدْتُ أَدراجي إلى البيت أُراجعُ حساباً مُعقَّداً.

 

                           ***

 قضيْتُ أُمسيةً قلِقة.  المجلّةُ قد طُبعتْ وانتهى الأَمرُ.  في الصّباح الباكر ستُوزَّعُ على منافذ البيع.  لم يجدِ النّومُ إلى عينيَّ وأَعصابي سبيلاً. سهرتُ حتّى ساعةٍ متأَخِّرةٍ من الّليل، أُقلِّبُ الأُمورِ على جنَباتِها.  أَخيراً استسْلمْتُ لِسُهادٍ مُتأَرجِح.  سرعان ما وجدتُني أَغطسُ في متاهات دهاليزَ معقَّدةٍ، وتداعياتٍ مُتداخلة...

وجدتُني أَقفُ حالِماً حزيناً مُسْتغرِقاً في التَّفكير، إلى جانب حاجزٍ لا حدودَ له.  حاجزٌ من الأَسلاك الشّائكة، يُسوِّرُ أَيْكةً مُتشابكةَ الفروع والأَغصان.  كنتُ أَقفُ باحثاً عن أَيِّ ملمحٍ إنسانيٍّ يؤنسُ مخاوفي وحزني.  لكنَّ كلَّ ما رأَيتُه كان ذلك التَّشابكُ الرّهيبُ المعقَّدُ لتلك الأَسلاك الشّائكة المتواصلةِ بلا انتظام، تُحيطُ بأَشجارَ عملاقةٍ تسدُّ أَغصانُها المتشابكة منافذَ النّور والهواء، وتنتشرُ بين جذوعها الضّخمة فزّاعاتٌ مبعثرةٌ هنا وهناك.  تجوَّلْتُ بناظريَّ في كلّ مكان.  مسحْتُ أَرجاءَ الأَيكة المسوَّرةِ بالأَسلاك الشّائكة، فلم أَعثرْ إلاّ على مزيد من الفزّاعات المترامية على مدِّ البصر. كان لأَكثر الفزّاعات هياكلُ حيوانات مفترسة مخيفة.  في موقع ما من امتداد الأيكة، تصوَّرتُ أنّ المكان يحتوي على انفراج ومخرج، فلا أَسلاكَ شائكة ولا تشابُكَ مُعقَّد.  لكنّ تصوُّراتي كانت هلوسةَ الخائف.  شجّعْتُ نفسي من جديد.  عليَّ أَن أعثُرَ عبرَ هذه المفازةِ اللامحدودة على ملامحَ إنسانيّة تُدخلُ الطُّمأْنينةَ إلى نفسي.  فشلتُ من جديد.  كلُّ ما حولي كان يوحي بالجمود وفقدان الإِحساس.  السّماءُ داكنة مشوبةٌ بزرقة باهتة.  الجوُّ مُغبرٌّ مشحونٌ بِأَتونِ الحرِّ الّلاسع.  من بعيد تصلُ إلى مسامعي المضطربةِ أَصواتُ شخيرِ ولُهاثِ حيواناتٍ غير آهلة.  أَزهقَ الحرُّ المُغبرُّ روحي وأَعصابي، وأَحسسْتُ كأَنّما أَبراجٌ من لَهَبٍ ونارٍ ودُخانٍ تكادُ تنقضُّ عليَّ.  عيْنايَ ما زالتا لا تشاهدان أَيَّ ملمحٍ إنسانيّ. من دون أن أَلتفتَ حولي لاحَ لي عن بعدٍ مُنحدرٌ صخريٌّ شاهقٌ ومُرعب.  وعلى امتداد هذا المنحدَر، توضَّعَتْ أَكوامٌ من الحجارة السّوداء بشكلٍ عشوائيّ، وكأَنّها تلالٌ من الأسماك النّافقة الفاسدة... " ما معنى هذا ؟! "... استبدَّتْ بي وساوسُ واهتماماتٌ طائشة.  أَصبحْتُ ككُرة تتقاذفُني التّصوُّراتُ المخيفة. "يا لهذا الحرُّ القاتلُ!"

نبتَ في داخلي سؤالٌ مريرٌ:" كيف لهذه الأَشجارِ العملاقةِ أَن تحيا وجنادبُ الحرِّ اللاّهبِ تلتهمُ هنا كلَّ شيءٍ ؟!".  من دون أَن أدري وجدْتُني أَخفضُ رأْسي بعنف، كأَنّني تحت تأْثير مطرقة تهوي بشدَّة.  كادتْ عنقي أن تلتوي. شئٌ ما جعلني أَبتهجُ إلى حين.  تلك الظّلالُ المتحرِّكةُ للأَسلاك الشّائكة المتشابكة، تتحرَّك على الأرض الجرداءِ الّتي تنفثُ غباراً ولهَباً.  إلاّ أَنّها بدتْ لِناظريَّ كأَنّها زخارفُ مشتجرةٌ تروحُ وتجيءُ فتُخفِّفُ من قتامة اللّوحة الطّاغية.  ابتسمتُ قليلاً لهذا المشهد، وساورني شعورٌ أنّ هذه الأَسلاكَ الصّلدةَ سهلةُ المكسر، وأنّ أغصان الأَيكة المتشابكة ليّنةٌ رقيقة. 

تشجَّعْتُ... حنيْتُ جسدي إلى الأمام بعناية فائقةٍ وتأَنٍّ.  وجدتُني أَتوقَّفُ مُحاصَراً في مساحة ضيِّقةٍ بين الأسلاك الشّائكة والأَغصان المُتأَرجحة.  التقطَتْ كفّي غصناً مخضوضِراً، نزعتُه عن أُمّه ورحتُ أُلوِّحُ به في الفضاء كطفلٍ انتصرَ في لعبة على أَقرانه.  أَعدتُ إِدامةَ النّظرِ إلى أَرجاء الأَيكة المترامية الأَطراف.  تلفَّتُّ يميناً ويساراً.  غاضتِ الفرحةُ من عينيَّ.  رياحٌ صحراويَّةٌ انفجرتْ في وجهي ولفَّتْ كلَّ شيءٍ حولي.  رسومٌ خُرافيَّةٌ لا تُعدُّ ولا تُحصى بدتْ أَمامي على صفحةِ السّماء الباهتة. توسّعَتْ حدقتايَ.  جحظَتْ عينايَ في مِحجريْهما. وبصُراخٍ عنيفٍ اندفعْتُ باتّجاه الأَيكة مُحاوِلاً الهروب.  وقعْتُ في شِراكِ الأَسلاكِ الشّائكةِ العنيدة. كلُّ شيءٍ من حولي أَصبح يُنْذِرُ بالكارثةِ والنّهاية المُرَّة. حاولْتُ أَن أَتعلَّق ببعض الأَغصان الخضراء، إلاّ أَنّني وجدتُني كذبابة علِقَتْ في شِراك عنكبوتٍ قاتل. تابعتُ محاولاتي للتَّعلُّقِ بِالأَغصانِ الخضْرِ والاحتماءِ بِظلالِها. إلاّ أَنّ كلَّ محاولاتي آلَتْ إِلى الإخفاق.  ندَّتْ عنّي صرخةٌ مكْبوتة.  صرخةُ استغاثةٍ، علَّ أَحداً ما يأْتي لِيُنْقذَني من شِراكِ الأَسْلاكِ الشّائِكة. 

                         ***

 أَيْقظَني صراخيَ المُسْتغيثُ من كوابيسي وأحلامي المزعجة.  فتحْتُ عينيَّ على وُسعهما وتلفَّتُ حولي بِهلَع. لم أَكن أَدري كم الوقْتُ الآن.  لحظتئِذٍ دخلَتْ زوجتي مسرعةً مُتلهِّفة. لعلَّها سمعت صوتَ صُراخيَ المهووس.  قالَت لي: " لم أَشأْ أَن أُوقظَكَ لأَنّني تصوَّرتُ أَنّك مُتعبٌ ومحتاجٌ للنّوم. لكنّكَ هلوسْتَ كثيراً في نومك، وهمهمْتَ بكلمات لم أَفهمْها " . كنتُ قد استعدْتُ بعضَ صحوي وهدوئي. نهضْتُ من فراشي ويمَّمْتُ صوبَ المغسلة. تابَعَتْ زوجتي قائلةً :" اتّصلَ رئيسُ التّحرير. قالَ . يجبُ أن تذهب إلى مكتب المجلّة فوراً".

غسلْتُ وجهي بسرعة. ارتديْتُ ملابسي كيفما اتَّفق. ومن دون أن أتناولَ فنجانَ القهوة الصّباحيّ، غادرْتُ المنزل مُسرِعاً. 

في مكتب المجلّة، كنتُ في مواجهة رئيس التّحرير.  كان يسندُ رأْسَهُ بين راحتيْه، ويضعُ مِرفقيْه على الطّاولة العريضة أَمامَه.  أَلقيْتُ عليه تحيةَ الصّباح. كان الوقتُ يتجاوزُ فترةَ الظّهيرة. تمتمَ بشفتيْهِ المضغوطتيْن كلماتٍ مُبْهمة. لم يلتفتْ إليَّ. لم يرفع رأسَه. لم ينبس ببنت شفة.  طالَ الصَّمتُ بينَنا.  ضِقتُ ذرعاً.  كنتُ مُتلهِّفاً لِمعرفة شيءٍ ما.  هلْوستُ في نفسي: " ماذا حدث؟! ".  كسرْتُ جليدَ الصّمت، وسأَلْتُ بجدّيّة:

-  نعم... ماذا حدث؟. ما الموضوع؟. ما بكَ؟!

غيَّرَ من جلستهِ المُحنَّطة.  رفع رأسَهُ. وقال بصوت صارمٍ مُتهدِّج:

- أَرأَيت... لقد صادروا أعدادَ المجلّة من جميع الأكشاك ومنافذ البيع. ذلك ما كنتُ أَخشاه وأَتوقَّعُه.  لم أَجد جواباً. تسمَّرتُ في المكان. حوَّلْتُ نظراتي عن وجهه وكأَّنّما أبحثُ من شيء.  سأَلتُه:

- وهل هناك شيءٌ آخرُ؟. 

-  نعم هناك شيءٌ آخرُ.

واستلَّ من أَمامه ورقةً ودفعها إليَّ. وقال: " هذه الرّسالةُ إليك".  بلهفة شديدةٍ، قرأْتُ الورقة : " المحرِّر السيّد فارس في مجلّة....... عليك مراجعتَنا اليوم في السّاعة...... تحت طائلةِ المسؤوليّة الأَمنيّة. 

قرأْتُ الورقة مِراراً. زاغتْ نظراتي. نظرتُ إلى رئيس التّحرير، كان ساهماً مُرتبكاً شاحبَ النّظرات والملامح. استدرتُ في مكاني. تطاولَتْ نظراتي إلى البعيد عبرَ النّافذة، ورحْتُ أَمضغُ كلماتِ الرّسالة.  سؤالٌ مُحيِّرٌ نبتَ في أَعماقي: " تُرى...هل أنّ ما شاهدتُه اللّيلةَ الماضية. كان حُلُماً أَم حقيقة " ...

 

مقالات اخرى للكاتب

قص
28 نوفمبر 2018
قص
14 أكتوبر 2018
قص
30 أغسطس 2018
قص
1 يونيو 2018

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.