}

الوحدة في السفر

مي عاشور 31 مايو 2018
يوميات الوحدة في السفر
لوحة للفنان صفوان دحدول

 

ذات يوم ستدرك أن النظر إلى السماء يبعث بشيء من الأمل .... فما زلت قادراً على التنفس، وما زالت عيناك ترى الألوان.

وحدي في بلد بعيد، تتجسد أمامي المشاعر وأبالغ في الشعور بها؛ فيصحب الاشتياق دموع، والخوف ارتجاف. استيقظ فجأة، أشعر بضيق في التنفس، أقول إنني بخير، لعله كابوس، ولكن شيئا ما يطبق على صدري، لا ألتقط أنفاسي بشكل طبيعي. هل يفيد الصراخ والخوف والبكاء الآن؟ لا جدوى من أي شيء سوى محاولة للتماسك، وإقناع نفسي أن ما أشعر به هو أمر عابر. وكأن قلبي يفرغ من كل شيء، ليصبغ بلون الخوف الغامق، وخاصة الخوف من فكرة السفر وحدي، أحاول طرد الفكرة فوراً، وأقول لنفسي: "قد يتعرض الإنسان إلى وعكة أو ضرر في أي مكان، ولو كان محاطًا بآلاف من رفاقه وأحبائه، فلا شيء أبداً يشكل حصنا في مواجهة القدر".

أحاول التأقلم مع الخوف ومسايرته، أمشي بخطوات متوجسة، أغسل وجهي، ما زالت أنفاسي متقطعة. والآن أقف على مفترق طرق، ثانية واحدة فقط تفصل بين إصابتي بفوبيا السفر، تصحبني طيلة عمري، وبين تجربة أتعلم منها وتثقل خطواتي.

أنزل لتناول الفطور، أحاول التصرف بشكل طبيعي، لم يذهب ضيق التنفس بعد، فهل أذهب إلى المشفى، أم كل ما أشعر به هو مجرد تعب عابر يتفاقم بفعل الخوف؛ لأنني وحيدة في سفري؟

أتذكر أناسا أعرفهم مروا بأشياء أعتى، فأخجل من نفسي. فأنا ما زلت قادرة على التنفس، أتنفس بصعوبة ولكنني أتنفس. أتخيل أنني في منتصف طريق جبلي، أقرب إلى القمة، وأن نسبة الأوكسجين قلت في الجو فجأة، فلو استسلمت سقطت، فلا مفر من مواصلة الطريق إذاً، رغم الأنفاس المتقطعة.

أخرج، وما زالت غيمة الخوف لم تنقشع بعد. يهب هواء صباحي، فيتسرب إلى رئتي، فأضرب عرض الحائط بشعوري بالخوف. فما هو أقصى شيء يمكنه أن يحدث للمرء، هل هو الموت؟ فليكن.  

الوحدة في السفر مخيفة أحيانًا، ولكنها تعلم المرء كسر حواجز الخوف التي يلقاها للمرة الأولى.  فرغم قتامة الصورة، ففي النهاية أنا في بلد أعرف لغته، صحيح أنه بلد في أقاصي العالم، ولكنني أستطيع التعبير عما أشعر به.

أكمل اليوم بين تناسي صعوبة التنفس وتعبي وخوفي ومحاولة للاستمتاع برحلتي. في المساء أذهب لمشاهدة عرض مسرحي، وأضيع في تفاصيل العرض، وأنسى تمامًا كل شيء، وكأن الخوف هو أيضا صار مشاهدًا له، تركني وانشغل عني.  

المسرح مفتوح، بين جبال وسهوب، وهناك نسمات ليلية لطيفة. ينتهي العرض، وكـأن هذه الراحة التي شعرت بها كانت كمخدر؛ مؤقتة وقصيرة المفعول. ضيق التنفس، يداهمني مرة أخرى. أغادر عائدة في طريق طويل، بداخل الحافلة، أسند رأسي على زجاج النافذة، أتأمل أضواء السيارات العابرة المتصلة في خطوط ملونة، ثم يتبعها ظلام، فأتأرجح بين الشعور بالخوف والطمأنينة.

أنا على ما يرام، لم أفقد الوعي بعد، ما زلت أتنفس ولو ببطء. أصل إلى السكن، أقرر أن أنام دون أن أفكر في شيء -أعلمُ- أنه بعد منتصف الليل تداهمك الأفكار كلها، وإن استسلمت لها ... التهمتك. ماذا لو توقف المشهد عند هذه الليلة؟ لا يهم .... فليتوقف إذاً.

أترك النافذة مفتوحة، لا أترك النوافذ كلها مفتوحة، أريد لضوء الصباح أن يوقظني. أخلد إلى النوم ... في البداية يكون متقطعًا مضطربًا، شيء من القلق يوقظني كلما شعرت أنني أفقد الوعي. في النهاية يغلبني النوم، فأنا في سهاد دام لثلاثة أيام متصلة، بفعل فرق التوقيت.

تشعر جفوني بالنور يتسلل، فترتعش مستشعرة إياه .... ها أنا أقف بين يدي صباح جديد، فأول ما خطر على بالي حينها، كان أن أتنفس، أجرب، يا الله يمكنني التنفس بسلاسة.   

في سَفركَ وحيداً، ستنظر إلى داخلك، سترى جزيرة مضيئة في وسط بحر مظلم، هذه الجزيرة هي تجربتك التي اجتزتها وحدك بكل ما فيها .... وكلما حاول الخوف أن يظلم جزءا بداخلك، سينتشر ضوءها بشراسة. ومن ثم لن تهاب أي  شيء، لا الوحدة، ولا السفر، ولا حتى الخوف ذاته. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.