}

بورخيس في باريس

نور الدين محقق 16 مايو 2018
يوميات بورخيس في باريس
خورخي لويس بورخيس

 

1-  بورخيس في مكتبة بابل: 

 

   في باريس، سألت صاحبة المكتبة، هذه المكتبة التي ذكرتني بمكتبة بابل كما تخيلها بورخيس، والتي تبيع كتبا سبقت قراءتها من قبل(مستعملة)، في أدب جم عن كتاب لبورخيس، فقالت لي مستغربة بأنها لم يسبق لها وهي القارئة النهمة للكتب أن سمعت بهذا الاسم. استدركت الأمر محرجا بعض الشيء والابتسامة على شفتي، آه.. أقصد بورجيس. ابتسمت بنشوة هذه المرة ،وهي تقول لي في زهو أنثوي جميل ،لدينا ثلاثة كتب له ،فهل أحضرها لك ؟ ، قلت لها ،مسرورا ،بالطبع سيدتي .حين عادت لي بالكتب الثلاثة وهي كالتالي "كتاب الرمل" و كتاب "الألف" و كتاب "كتاب المخلوقات الوهمية "،وبعد أن أديت لها الثمن ،وقد كان مناسبا جدا خصوصا وأن طبعات هذه الكتب كانت طبعات أصلية نادرة، وقبل أن أغادر رحاب المكتبة ،نطقت سيدة عجوز ، شبيهة في ملامحها بالكاتبة الانجليزية الشهيرة أغاثا كريستي، كانت بالقرب منا، ويبدو أنها قد استمعت إلى الحديث الذي دار بيننا موجهة كلامها إلى صاحبة المكتبة ،في الواقع ،هذا الكاتب اسمه في الأصل بورخيس ،حتى وإن كان اسمه ينطق في لغتنا ببورجيس ،وهذا الجنتلمان قد كان لبقا في الحديث معك سيدتي .لحظتها نظرت إلي صاحبة المكتبة بامتنان، وأهدتني كتابا اختارته حسب ذوقها الرفيع ،وهي تقول لي ،أتمنى أن يعجبك .حين نظرت إلى الكتاب ، ظهر الاستغراب على ملامح وجهي ، وأنا أقول لها بصدق، تصوري سيدتي ،لقد كنت عازما على سؤالك عن هذا الكتاب بالضبط .شكرا جزيلا على هذه الهدية الثمينة .ثم التفت إلى السيدة العجوز وأنا أرفع قبعتي لها في تقدير كبير.بعدها غادرت المكتبة متوجها صوب المقهى حيث كانت تنتظرني هيلين التي ما أن رأتني قادما صوبها حتى توجهت نحوي معانقة، وهي تقول لي بمرح ،أكيد أحضرت لي الكتاب الذي طلبته منك.قلت لها وأنا أريها إياه طبعا ياعزيزتي . لقد كان نفس الكتاب الذي أهدته لي صاحبة المكتبة.

 وبالرغم من أنك أيها القارئ النبيه لن تسألني عن عنوان هذا الكتاب المشار إليه هنا، فأنا أعرف مدى شدة فضولك في معرفته، ولكي تظل العلاقة بيننا قائمة، فأنا أسارع بإخبارك به. إنه كتاب "1234" للروائي الأمريكي الشهير بول أوستر.

 

2-  بورخيس في الحي اللاتيني:

 

   ذهبت إلى الحي اللاتيني صباحا. كانت المقاهي تفتح أبوابها على زخات مطر خفيف سرعان ما غاب لتشرق شمس بهية. جلست في أجمل مقهى فيه كانت تربطني بها علاقة صداقة قديمة. طلبت فنجان قهوة. وانغمست في كتاب كنت أحمله معي. كان الكتاب يحمل عنوانا بهيا، ويتحدث عن مدينة باريس معتبرا إياها يوم عيد بالمقارنة مع باقي المدن العالمية الأخرى. فجأة رن هاتفي وسمعت صوتا أنثويا فاتنا ينطلق منه متسائلا في نبرة فيها فرح خفي وعتاب واضح. أنت في باريس إذن ولم تتصل بي؟ عجبا منك؟ اعتذرت لهذا الصوت الأنثوي الجميل وأخبرت صاحبته بأنني غالبا حين أزور مكانا معينا يوجد فيه أصدقائي لا أريد أن أجعلهم يغيرون برامجهم اليومية من أجلي. ابتسم الصوت. وهو يقول لي، اعتذار أكبر من الزلة. أعرف الآن أنك في الحي اللاتيني. بعد ربع ساعة أكون عندك. ثم أنهت صاحبة هذا الصوت الأنثوي الجميل هذه المكالمة. شعرت بفرح وارتباك معا. الفرح آت من سؤال هذه الصديقة عني والارتباك آت من عدم معرفتي من تكون. لم أستطع تمييز صوتها لقوة الغنج الأنثوي المنبعث منه وهو يعبر ذبذبات الهاتف. قمت بعدها وقصدت المكتبة الكبيرة التي تبيع كتبا مستعملة بأثمان مناسبة جدا. كنت أنقب بين هذا العدد الكبير من الكتب عن كتاب ينتظرني بينها دون سابق معرفة بيننا، فإذا بي أسمع صوتها الجميل يأتي من خلفي ضاحكا. ها هو الكتاب الذي تبحث عنه. حين التفت مندهشا وجدتها تقف بالقرب مني. طبعت قبلتين على خديها معا، لكل خد منهما قبلته الخاصة به. وحين رأيت الكتاب الذي كانت تحمله في يدها اليمنى ابتسمت. كان الكتاب عبارة عن حوارات مع أحد كتابي المفضلين خورخي لويس بورخيس.

 

3- بورخيس في المترو:

 

 في المترو وأنا أجلس منشغلا بما كنت أقرأ ومنشغلا في ذات الوقت بما كنت أرى من محطات تتسارع أمام ناظري ، مقسما ذاتي بين عوالم الخيال وعوالم الواقع بشكل عفوي بديع اعتدت عليه منذ زمن مضى ، لفت انتباهي جلوس آنسة فرنسية بالقرب مني وهي تقرأ في كتاب ،غير منتبهة لما يجري حولها وغير مترقبة للمحطة التي ستنزل فيها .كأن توقيت وصول المترو إلى هذه المحطة قد انغرس في جسدها وتزامن مع دقات قلبها ، فلم تعد منشغلة به .نظرت إليها أكثر من مرة لعلي أكتشف سر هذا الانشغال الكلي بما تقرأ ، وهذا الاطمئنان الباهر بأنها ستنزل في محطتها المرتقبة كما اعتادت أن تفعل بدون أدنى جهد يذكر . وحين شعرت بنظراتي المستمرة إليها، رفعت عينيها الجميلتين إلي وابتسمت، ثم عادت لما كانت عليه من الانغماس الكلي في القراءة. عبر المترو ثلاث محطات تباعا، وفي الرابعة نزلتُ فشعرتُ بها تنزل خلفي. حدقت فيها من جديد، ونظرت إلى الكتاب الذي كان بين يديها فمدته لي وهي تبتسم. كان الكتاب يحمل عنوان "قصائد حب"، وكان صاحبه هو الكاتب الأرجنتيني الشهير خورخي لويس بورخيس. أخبرتها لحظتها بمدى شغفي بعوالم هذا الكاتب وبتأثيره الكبير في الأدب العربي الحداثي. بدت الدهشة في ثنايا عينيها الجميلتين، ثم أخبرتني وبعض الحرج يكسو وجهها لأنها لم يسبق لها أن قرأت شيئا ولو ضئيلا من هذا الأدب، وبأنها راغبة في معرفته، لاسيما وأن بورخيس، كاتبها المفضل، كثيرا ما كان يشير إليه في كتاباته. اغتنمت هذه الفرصة لأحدثها عن نجيب محفوظ، الكاتب العربي الوحيد الذي حصل على جائزة نوبل للآداب، وعن مدى جمالية رواياته. فطلبت مني أن أدلها على أجمل رواية لديه كي تقوم بقراءتها. شعرت بالحرج بعض الشيء، وأنا أستعرض في ذهني كل ما سبق لي أن قرأت له من روايات دون أن يستقر اختياري على واحدة منها. وفجأة برقت في ذهني روايته البهية "ليالي ألف ليلة"، فأخبرتها بها وشجعتها على قراءتها. أعجبها الأمر كثيرا، لاسيما وأنها قد سبق لها أن قرأت ما كتبه بورخيس عن كتاب "ألف وليلة وليلة" ورغبت في قراءته دون أن يتسنى لها ذلك، نظرا لانشغالاتها الحياتية. ودعتها بعد أن منحتها رقم هاتفي دون أن أطلب منها رقم هاتفها. مر أسبوع كامل دون أن تتصل بي، وحين كنت متوجها صوب المطار كي آخذ الطائرة الذاهبة إلى مدينة الدار البيضاء، بعد أن أوشكت أيام عطلتي على الانتهاء رن هاتفي وحملت لي شاشته رقما لم تسبق لي معرفة اسم صاحبه أو صاحبته من قبل. وحين فتحت الخط سمعت صوتها يأتيني مبتهجا وهو يخبرني برغبتها في الالتقاء بي كي نتحدث عن رواية نجيب محفوظ السالفة الذكر ونشرب القهوة معا. أخبرتها لحظتها بأني في طريقي للمطار، فأصرت على المجيء عندي. انتظرتها طبعا، لكن موعد الطائرة قد حان، فذهبت دون أن ألتفت ورائي. وأنا أمضي سمعت صوتا يناديني، كان الصوت صوتها وكانت الطائرة في انتظاري، وكان بورخيس يقف بيننا ساخرا من لعبة الزمن... !

مقالات اخرى للكاتب

شعر
6 مايو 2023
يوميات
5 يونيو 2018
يوميات
16 مايو 2018

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.