}

محضر غير رسمي

عماد الورداني 10 مايو 2018
سير محضر غير رسمي
لوحة للفنان المصري حامد ندا

 

عماد الورداني

خمس سنوات هي المسافة الفاصلة ما بين عطر الخيانة واحتراق جسدين، في هذه المدة، انتقلت من عالم الروائح إلى عالم الجسد وأسئلته، وقد شجعني على المضي في هذا الطريق، أني انغمست في بحث أكاديمي عن الجسد في الرواية، جعلني أغرق في بحر يتطلب الصرامة والجدية، ولأني أحب اللعب، عدت إلى بحري  كي أستعيد توازني، صارت القصة علاجي من الاكتئاب، طرقت الباب بخجل، فأشرعت القصة بابها، احتضنتني، وعاتبتني، ثم غفرت خطيئتي، فتحت حدائقها قدامي، تنفستُ، وعشت شغبي الطفولي، وحالما أخذتُ كفايتي من الفرح، لذت عائدا إلى صرامتي. ككرة أتدحرج ما بين الجد واللعب.

كتبتُ نصوص المجموعة على نار الرويِّة وهي "نار جد مُنْضجة"، وأثناء الكتابة وبعدها وقبلها، ومتى تيسر الأمر كنت أعرض نصوصي على أصدقائي، قراء من مشارب مختلفة، ففي جلسات يومية بمقهانا المفضل "مانيلا"، كنت أتصيد الفرصة لأمرر نصا، أعرف مسبقا أن قصفا عنيفا سيصيب حصوني، لكني لا أعبأ بالهزائم. تتحول قصتي إلى موضوع للنقاش، ما بين حذف وتعديل ونقد وهدم وبناء وقليل من الثناء، لطالما تعرضتُ للجلد والسحل واللكم والركل، فما كان مني سوى أن أطور مناعتي، وأركب أذنا ثالثة قادرة على المقاومة ، وهي مناسبة لأشكر أصدقائي فردا فردا.

وحينما خرجتْ مجموعتي بلا خطط حربية،  تعرضتُ لاعتقال مباغت، حيث قادتني شرطة الأدب إلى مخفر سري للتحقيق معي في جرائم يفترض أني اقترفتها، أجبرتني على كتابة المحضر بخط يدي حتى لا أنكره في مراحل التحقيق. لقد اعترفت بالتهم، وواجهني المحقق بأدلة دامغة منها: أقلامي ومسوداتي وتسجيلات صوتية وشهود.

وبناء على شهادة الشهود والأدلة الجرمية، فأنا متورط إلى أخمص أذني، ولا أستطيع توقع العقوبة التي ستطالني، إنني الآن متابع في حالة فرار دائم من القصة إلى القصة، تتعقب خطواتي عين المحقق وعيون أخرى أجهلها، بعضها يسجل اعترافاتي في هذه القاعة.

ومما جاء في المحضر ما يأتي:

 

س: أنت متهم بالغموض؟

ج: لا أعرف بشكل دقيق ماذا تعني هذه الكلمة، ربما لأنها حَمَّالة أوجه، ربما سأنزع نظارتي وألبس نظارتك، حتى أتناسب مع متطلبات الذوق العام الواضح حد الفضيحة، ظننت أن الغموض جناية شعرية وليست سردية، ولطالما تدخل نقاد الشعر لشرحه، وافترقوا مللا ونحلا، واختلفوا فهما وشرحا وتفسيرا وتأويلا. ربما أحتاج للقاضي الجرجاني حتى يتوسط بيني وبين خصومي. صارت هذه العبارة لا تعبر عن القلق بقدر ما أمست أداة فعالة للتخلص من أي أصبع قد يشير بشكل صريح أو ضمني لخمولك، كأنك تريد أن تضرم النار في البحر كي تحتفل بانتصارك.

س: أنا لا أحب طلاسمك، قوانيننا تدين المسخ الذي تمارسه في قصصك، كأنك تسخر منا،

أنت ترحل لغة من فضاء إلى فضاء دون أن تراعي قوانين الطيران، نتهمك بزرع الفتنة بين الأنواع دون مراعاة حرمة الجوار؟

ج: الموسيقى هي اللغة الوحيدة التي ترغم أذنيك على الإنصات، أما باقي اللغات فهي تفاصيل صغيرة منحت لنا كي نرتكب  الأخطاء، ثم طورناها كي تقول ما نظنه صوابا، فابتكرنا أساليبنا في الحياة، وأعتقد اعتقادا جازما أن الاستعارة تشبه منطادا، إنها تتيح لي الطيران ، هل هناك قانون يمنع الطيران؟ ثم ماذا سأفعل، لقد جربت كتابة الشعر وفشلت، وأعتقد أن التهم التي تواجهني بها هي أسباب كافية تحرضني كي أحرق سفن العودة، وأستمر فيما تراه خطيئة، كأنك تطلب مني أن أجتث لساني وأركب لسانا صينيا لا يلوك ما أشتهيه، وإنما يتلمظ بمرارة شحوم الذاكرة.

س: ستفشل حتما في القصة، ولسانك السليط  ستبتلعه، ولن تجد حرفا يتضامن معك، أنت متهم بزعزعة أركان القصة، لقد هدمت كل ما بنيناه بجرة قلم، هل ستنكر هذه التهمة؟

ج: إذا كانت القصيدة تشبه خيمة، فإن القصة عبارة عن مدينة ألعاب حرة، كل لاعب يجرب لعبة أو يبتكرها كي يحقق متعته قبل أن يفكر بوجودك، أنت الذي تريد قصة مفصلة على الشارع الذي تذرعه ما بين السادسة والثامنة، قصة بالأبيض والأسود شبيهة بالحكايات الرومانسية التي تنتهي بدمعة ساخنة أو زغرودة. تريدني أن أكون آلة تصوير صدئة تلك التي تخفي رأسك داخلك كأنك نعامة،  تريدني أن أصير عينك التي ترى الحياة مربعة، لا لن أفعل، مازالت أحب اللعب،  والمباني التي شيدتموها لا تستهويني، إنها تثير حساسيتي، وكلما مررت بأطلالها أصاب بنوبة ربو حادة.

س: لا أحتاج وصاياك، المتهم لا يحق له أن يقدم النصائح، ما يهمني أنك لا تنكر التهم بل تثبتها بجفاء، كأنك لا تبالي بما ينتظرك، أنت مدان بالعبث بأنظمة مملكتنا، وعليك أن تتبرأ مما كتبته وتعلن ثوبتك، وإلا جلدناك

ج: لقد أنبني ضميري في لحظة ضعف، فكتبت مجموعة قصصية للأطفال عنوانها "الورود تعود إلى حديقتنا"، أعتقد أنها تناسب ذوقك، ستجد فيها زقزقة العصافير، وخرير المياه، وسيدخل كريم ، وتخرج مريم، لقد جربت الكتابة القريبة من الطبيعة، تلك التي لا تضع عطورا، وتجهل الدساتير، وليس لها ماض يعيقها.

س: لقد أفسدت ذائقتنا، وتريد أن تفسد ذائقة أطفالنا، هل تحرضهم كي لا يقبلوا وصايانا؟

ج: كنت قد كتبتها للصغار، والآن سأصحح الفئة العمرية إنها للكبار الصغار الذين لا يجيدون النظر إلا في النهار، أعتقد أن تهمك الآن باطلة.

قال المحقق بغضب قمنا بـإطلاق سراح المدعو عماد الورداني يومه الجمعة 20 أبريل 2018، على الساعة التاسعة مساء، بضمان مخطوطته القصصية "الورود تعود إلى حديقتنا"، وسنتابعه في حالة فرار، وقد اطلع على المحضر ووقعه ببرود .

  • ألقيت الورقة في الدورة العشرين من عيد الكتاب، ضمن فقرة كتاب يتحدثون عن أعمالهم.
*كاتب من المغرب

 

مقالات اخرى للكاتب

سير
10 مايو 2018

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.