}

الوزغة على أعلى الجدار

ماجد عبد الهادي ماجد عبد الهادي 22 أبريل 2018
قص الوزغة على أعلى الجدار
لوحة للفنان شوقي عزت

هل تعرفون الوزغة؟ أعني هل تعرفتم إليها عن قُرب، وانتبهتم إلى تكوينها الخلقي (بفتح الخاء مرة ثم بضمها مرة أخرى) وكيف يؤهلها لفعل ما لا يستطيع معظم المخلوقات الزاحفة والفقرية وسواها من الحيوانات والطيور والبرمائيات.

 كأني أسمع بينكم من يجيب على سؤالي بالنفي، وذاك لعمري (اسمحوا لي بهذا الاستخدام اللغوي المُغرق في القِدم) جواب يفتقر إلى الدقة، على ما أظن، لأن الوزغة هذه لا تترك مكانا إنسياً في البلاد الصحراوية وشبه الصحراوية الحارة نسبياً، كبلادنا، من دون أن تتسلل إليه، عبر الشقوق والفتحات المنسية أو المهملة، وأحيانا عبر الأبواب والنوافذ التي يتركها أصحابها مواربة بعض الشيء، لمرور الضوء والهواء.

لا، لا، أرجوكم اقرأوا حتى النهاية، وتجنبوا التفكير المسبق بإسقاطات سياسية واجتماعية على ما أقول، ذلك أني وجدت نفسي اليوم أكتب كلاماً "بعيداً عن السياسة"، وفق ما كانت الجرائد القديمة تسمي بعض زواياها أو صفحاتها المنوعة، وهو ما أظنه بعض ترف أستحقه. هل يرضيكم أن أواصل إلى الأبد مراوحتي الكتابية المضنية بين الأسماء المرفوعة بسفك الدم، والأفعال الناقصة المبنية على جنون التوحش، لأشخاص مثل بشار الأسد وعبد الفتاح السيسي وبنيامين نتنياهو وفلاديمير بوتين وأبو بكر البغدادي؟ لماذا لا أُرَوِّحُ عن قلمي مرة في السنة بترك هذه الوحوش وشأنها، لأكتب عن مخلوقات أقل خطراً، ولكنها تعيش حولنا أو بيننا، كالزواحف مثلاً؟

دعوني إذن أعود إلى الوزغة، وهي، لمن لا يعرف، نوع من السحالي، يسميه الناس أبو بريص، ولست أدري لماذا ينزعون عنها (عنه) اسمها (اسمه) الأنثوي ويسبغون عليها (عليه) هذا اللقب الذكوري، رغم أن أحداً لا يقدر حين يصادف هذه العظاية، وهذا اسم آخر لها، أن يتكهن بما إذا كانت (كان) أنثى أو ذكراً أو بين بين.

 أطلْتُ عليكم، وأسهبت. أعرف، ولكن ما باليد حيلة غير تلك، كي أستطيع استدراجكم إلى ما أريد الوصول إليه، من المعطيات والحقائق العلمية التي لو كنت كتبتها مباشرة وبشكل مجرد، لما قرأها أحد منكم، ولما حصدت خمسة أو ستة علامات إعجاب (لايكات) في حسابات وسائل التواصل الاجتماعي.

 على أي حال ما حدث قد حدث، وها أنا أصل أخيرا إلى جُحر القصيد (مع الاعتذار لبيت القصيد)، وأنقل إليكم معلومات مختارة من التعريف بهذا الحيوان الذي لم يسعفه تطوره ليكون أفعى كاملة المواصفات، أطرفها أن طول ذيله يبلغ تقريباً نصف طوله الإجمالي الذي قد يصل في أقصى الحالات إلى ثلاثين سنتيمترا، وهو قادر على التخلي عنه في عملية انشطار ذاتي هدفها مشاغلة العدو، في لحظات الخطر، كما يمكنه الاستعاضة عنه بذيل بديل سرعان ما ينبت مجدداً بمجرد بتر سابقه.

ومن طريف ما يروى عن أبو بريص أيضاً أن له لسانا يكاد يضاهي ذيله طولاً، وأن ثمة أنواعاً منه يمكنها تغيير لونها، بغرض التمويه، على غرار ما تفعل الحرباء، في آلية حربية ماكرة، ومن أهم ملامحها أيضاً أنه ينشط في الظلام، ويتوارى عن الأنظار، كلما أشرقت الشمس وسطع ضوؤها.

لماذا يكرهه الناس؟

هذا سؤال لا جواب جامعاً مانعاً عليه في ما استطعت بلوغه من المصادر المهتمة بتاريخ السحالي؛ فبعض المرويات تعيد السبب إلى شكله المقزز، وتطفله على منازل البشر، بدلاً من الاكتفاء بجحر يلائم فصيلته، في حين لا تخلو صفحات علمية من اتهامات له بأنه يسهم في نشر أمراض وأوبئة خطرة في الأماكن التي يصل إليها لسانه، ومنها مثلا بكتيريا السالمونيلا Salmonella، وطفيليات معوية تُدعى الديدان الدبوسية Entrobius Vermicularis، وأخرى تنفسية تُعرف باسم الديدان اللسانية Pentastomida (نعم اللسانية)، ناهيك بما جاء في قصص الأولين، عن أن أبو بريص هذا كان الحيوان الوحيد الذي اختار النفخ على أبينا النبي إبراهيم عليه السلام حين أحرقه أعداؤه، مقترفاً بذلك فعلا جهولاً يعاكس على نحو شيطاني قول الله تعالى "قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم".

أما أهم ما في أبو بريص، أو الوزغة إن شئتم، فهو أن الله جلت قدرته، قد حباه، وهنا لب الحكاية، بأرجل تحوي في باطنها ملايين الشعيرات الدقيقة التي في وسعها أن تندمج على المستوى الجزئي مع أنواع الأسطح كافة (وفق تعبير الضالعين في علم تشريح الزواحف) لتجعله قادراً على تسلق أي جدار، حتى لو كان من زجاج أملس، وبسرعة مذهلة لا يضاهيه فيها مخلوق آخر، مهما بلغت قدراته العقلية، ومهاراته التسلقية.

 سأزعم مجدداً بأني ما زلت أتحدث عن فصيلة من فصائل الزواحف، لا عن أي نوع قد يخطر على بالكم من أنواع البشر، وسأتمادى في مزاعمي إلى حد التعبير عن ثقة تكاد تكون أكيدة بأني أنجح الآن في دفعكم إلى أن تتخيلوا، أو تتذكروا الوزغة تتسلق الجدار بأسرع من لمح البصر، ثم تبلغ أعلاه لتتعلق في زاوية تحت السقف بقليل، وعينها تلمع بنظرة حائرة بين الاطمئنان إلى نصر ربما تحقق، والحذر من مفاجأة قد تقع.

 لكن تلك لا يمكن ان تكون خاتمة ملائمة لنص تورطت في كتابته عن الوزغة التي يمنحها الناس لقبا ذكورياً فيسمونها أبو بريص. هي نهاية مفتوحة على المجهول، كما ترون، لحكاية شبه علمية أو فانتازية تخاطب القراء في قوم ما انفكوا يتعطشون لتعويض بؤس واقعهم، بنهايات درامية سعيدة. وعليه، يصير مأمولاً من كلٍ منكم أن يحاول وضع خاتمة أخرى يراها مناسبة، ليحكي فيها عن مرحلة ما بعد وصول أبو بريص إلى أعلى الجدار، ويقترح طريقة لطرده أو التخلص منه، قبل أن يصل إلى السقف ويتحصن في نقطة يصعب عندها إسقاطه، ويصير التعايش معه ومع سلالته وأبناء فصيلته خياراً وحيداً لا مفر منه.

 

 

مقالات اخرى للكاتب

قص
2 يونيو 2015

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.