}

مصائر

قص مصائر
لوحة للفنان السوري عادل داوود

 

يمتدّ اللّيل إلى المكان وينحسر؛ فالنّافذة مواربة. هذه العبارة مزدحمة بالحركة، إنّها تغيظني؛ لذلك سأتحوّل إلى موضوع آخر، مثل: حبّي للنّجوم؛ لأنّها تخرجني من حالتي البغيضة هذه إلى حالة أخرى؛ إذ أشعر بأنّي أتحرك: أطاردها، فأمسكها ثمّ أفلتها! على أنّي سمعت أمّي مراراً، تقول بحسرة: نحن وهي جمادات!

مركونة عند حافة حوض غسيل الأطباق منذ أسبوع دونما أعمال شاقة أو عابرة، وثمّة جفاف مهول في جسدي على أنّ الحوض بالقرب منّي طافح بالماء. حسناً إنّني أحفظ بيتاً من الشّعر يصف ما أنا به تماماً. يترّنم به العجوز – صاحب الدّار- دائماً بينما يغسل فناجين وحدته:

كالعيس في البيداء يقتلها الظّمأ

والماء فوق ظهورها محمول.

لابدّ أنّها عدوى؛ إذ صرت أترنم به خارج أوقات الأُنس بالماء! سأكفّ عن هذا؛ لا يصلح المطبخ للفنّ لكنّه ملائم لإسفنجة مثلي تجيد غسيل الأطباق.

الرّيح تدفع النّافذة بقوّة؛ أفٍ؛ لم يحكم العجوز إغلاقها على أنّ الرّيح ليست في جدول أعمال الطقس هذه اللّيلة.

هذا الحراك غير المتوقع دفع بي إلى الهاوية؛ لقد سقطت في الحوض. لست مصابة بانفصام؛ أجل، منذ لحظات أعربت عن رغبتي في الماء لكنّ ... قدر الاسفنج أن يظلّ طافياً على سطح الماء! إنّها الخفة اللّعينة. أحتاج إلى من يغرقني! هل سأبقى على هذه الحال اللّيل كلّه! إنّه عذاب حقيقي!

الشّاعر العجوز في سرب أحلامه، والأشياء كلّها من حولي تُشاطرني الطّبيعة الجامدة. لقد هبّ هواء شاحب كثير؛ سيّرني في جهات عدّة لكنّها متشابهة في نهاياتها؛ إذ كنت أرتطم بحواف الحوض أنّى توجهت.

أراقب السّاعة الخاملة على الجدار المقابل ذي الشّروخ، فأصاب بيأس عميق؛ إذ لا أعرف كم سأستغرق في هذا البرزخ؛ تكمن النّار في اليباس والجنة بالنسبة لي الغرق.

أحكّ الذّاكرة في محاولة لابتكار أسباب للبكاء؛ فحين يكثر فيّ قد أتمكن من الغرق، والوصول إلى الأقصى الممتلئ بالأسرار.

اسمعوا أنا أتفهم أنّ الغرق فكرة وسلوكاً سيء السّمعة، لكّني أستعذب ذلك أكثر ممّا أنا فيه. وهنا لابدّ أن أسرد بيتاً آخر تسرّب إليّ من العجوز المولع بالشّعر:

وَالهَجْرُ أقْتَلُ لي مِمّا أُراقِبُهُ

أنَا الغَريقُ فَما خَوْفي منَ البَلَلِ

لعلّ صرير النّافذة كان أعلى من أفكاري، ها هو العجوز مقبلٌ من سريره على قلق من أنّ الرّيح قد كسرت شيئاً. أغلق النّافذة. تأكّد من أنّ الجمادات لم تنبس بحركة واحدة، تنهدّ قائلاً: لم يكن الهبوب قوياً. غادر المطبخ وما اكترث لإسفنجة تحفظ شعراً كثيراً منه عائمة في الحوض الذي يغسل فيه أحزانه، ناديته كي يخرجني من هذا الدّوار لكنّ صوتي كان باهتاً مثل حالة المنتصف تماماً. ومذ تلك الحادثة لم أعد أحفظ عنه شيئاً لكنّي بدأت أكتبه إذ يصلح الشّعر لإسفنجة قدرها الطّفو ورغبتها الغرق.

 

 

 

  

مقالات اخرى للكاتب

شعر
10 مايو 2020
يوميات
23 يونيو 2018
قص
15 أبريل 2018

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.