}

المتاهة المائية

أمجد ناصر أمجد ناصر 21 مارس 2018
شعر المتاهة المائية
عمل للفنان السوري خالد تكريتي

(إلى علي)

أقولُ، أنا زائرُها، إنني أعرفُ المدينة.

رأيتها في النهار ورأيتها في الليل.

 صحيحٌ، ليلها يختلف عن نهارها،

ليس بألوان التوليب المتغيرة

وإنما بأولئك الذين يفعلون في الليل

ما لا يفعلون في النهار،

ولكن،

 في ذاكرتي بضع نقط عَلامٍ،

ولا أحتاج دليلاً.

فكيف لا تُعْرَفُ راحة كفٍّ من نظرة أو اثنتين؟

 إنه إحساس خادع،

 سرعان ما أتبينه بعد شارع أوصلني الى قناةٍ

 وقناةٍ أفضت بي الى جسرٍ

وجسرٍ أعادني إلى الشارع نفسه

 ثم اختفى .

أعلّل نفسي، أنا الزائر الذي لا يعوَّل عليه

 بالقول: حتى البصّارة لا تعرف راحة يد مارقٍ أو قديسٍ

 من نظرة أو اثنتين..

سأبدأ، إذن بتصنيف العلامات،

 وأفرد عدَّتي على الأرض وأقيس الأبعادَ

 كما يفعل مخططو المدن المتوحدون.

منظاري عاطل عن الجهات

 وملاحي الآليّ يرتدي زعانف غواص.

  إذ هذا ما ألهتمه به بصيرته الميكانيكة أمام مياهٍ ارتفعت.

قناةٌ وجسرٌ وبيتٌ مائلٌ..

هذه العلامات التي اعتبرتها نقط ارتكازي

 وصنفتها في خانات.

ولكن هنا، بالضبط يكمن خطئي

 وتبدأ المتاهة.

فلا شيء أكثر من القنوات والجسور على مياه ترتفع ثم تنخفض.

أبدأ بالساحة التي تؤدي إليها كل الطرق، أو هكذا يقال.

أحدّد مربعاً صغيراً وأقول لنفسي:

 إن ذلك المقهى أو المطعم،

أو تلك الدخنة التي تُسْطِلُ الهواءَ،

تطلُّ على قناةٍ في مربعٍ يشبه هذا المربع.

أمسح المربَّع شارعاً شارعاً ولا أصل.

حتى لو سألت لن يفهمني، بلساني هذا، أحد.

فأي قناةٍ أقصد؟

أستعيد صورة جسر

وأقول بالقرب من الجسر

وأشحنُ منظاري ببقايا الفراسة التي هجرتني.

 ولكن بلا فائدة.

فأيُّ جسرٍ هو الذي أتحدث عنه بين الستمئة أو الألف؟ فالقنوات والجسور ها هنا مثل الخطوط والشعيرات الدموية في راحة اليد. أنسى القناة والجسر كنقطتي علام وأقول: آه.. بالقرب من بيتٍ ذي شنكلٍ حديديٍّ يتدلى من السقف!

أنظر جيداً. البيوتُ كلها تقريبا،

تتدلّى منها شناكل حديدية كخطاطيف القراصنة.

 الماء وأشباحه يتكرران ويتداخلان في مرافق المدينة.

الماء، هنا مثل الصحراء، متاهة.

 فإن استطعت أن تعلِّم الصحراء تستطيعُ أن تترك أثراً على الماء.

أتذكر أني رأيت بيتاً مائلاً الى الأمام،

 بيتاً يكاد يقعُ على وجهه.

أرفعه أمامي كنجمة هادية.

فأيٌّ من بيوتها يكاد لا يقعُ على وجهه؟

أيٌّ لا يستدرجه الماء الماكر
إلى شِباكه المنتظرة؟

 أتذكر أني سمعت مهاجراً دخل هذه المتاهة المائية ولم يخرج منها، يسمي قنطرة عبرتها في ليل مترنح. سمعت كلمة "أزرق". لا أعرف إن كان يسمي الجسر أو يتحدَّث عن لون الكوابيس التي تراود الأهلين في رابعة النهار. التسمية قد تكون مفيدة. قد تقرِّب الصورة من ذهن رجلٍ تتدافع الخاءات على لسانه كما تتدفق الآهات من حنجرة عربيٍّ.

لكني لم أسمع خاءات كثيرة.

فللمدينة أكثر من لسان، وأكثر من حرف واحد تولد منه الكلمات. للمدينة ألسنة متشعبة كألسنة بابل. هناك، أيضاً، من يفكر ببابل عندما يقف على ضفة نهر. المهاجر البابلي، مثلا، الذي شيبته حروب بابل يظن أنه في بابل رغم الغيوم الرازحة في القبّة القاتمة كقطعان من الأبقار الطائرة.

***

ليس هكذا يصل الزائر الى ما كشفته له المدينة،

 ذات يومٍ أو ليلةٍ، وحجبته.

قلت لنفسي: ربما أحتاج خريطة.

رأيت كثيرين يفردون الخرائط أمام وجوههم ويمشون.  لكن الخريطة متاهة أخرى.
ثم هذا الماء،
هذه الشرايين الزرقاء التي تخترق الخريطة من كل جهاتها، هذه الأحزمة التي تطوِّق نوم المهدَّدين بالغرق، كيف لي أن أقرأها؟ يمكنني أن أقرأ الكلمات، رغم تراقصها والتباس معانيها ولكن كيف لي أن أقرأ الماء؟
أفرد الخريطة أمامي. أرى سبعة أحزمة زرقاء. أرى ألف عقدة اتصال وانفصال. هناك مفاتيح للخريطة. ولكنها رموز. عليَّ أن أحلَّ الرموز أولاً.

أبدأ برمز يشبه القنطرة، فأقول هذا جسر. ورمز يشبه القارب، فأقول هذه قناة. ثم أرى سريراً فأقول فندق، ثم عيناً محدّقة فأقول: تعويذة لدرء العين الشريرة. هناك نصيحة مكتوبة بخط صغير مائل تقول: إذهب حيث يذهب الأهلون!

ولكن أين يذهب هؤلاء؟

أين هم الأهلون في بابل المياه والألسن هذه؟

 أتذكر صديقاً لي يدعى "علي"،  يصل سريعا الى الساحة التي تؤدي إليها، كما يشاع خطأ، كل الطرق. القنوات والجسور لا تحير "علي" الذي لا يكفُّ عن فتل شاربيه التركيين. أحدثه عن متاهة المياه والجسور، يفتل شاربيه، ويحدثني عن الأرشيف. أقول له لا أعرف المدينة. ظننت أني أعرفها. في رأسي ثلاث أو أربع علامات ولكني أضعتها في الطريق الى الساحة، فيقول لي: ابعث رسالة الى مواطن ستجدها في أرشيفه بعد مئة عام. قال،  إن العلب الزجاجية تزحف على المدينة وتطوق الكاتدرائية بثياب النوم. ثم قال: دعنا نذهب الى رجال الحرس الليلي قبل أن ينطلقوا بأردية برونزية في جولة على بوابات المدينة السبع.

من دون أن يدري حلَّ "علي" لغز أحزمة المياه السبعة على الخريطة. إنها بوابات المدينة إذن. قلت لـ "علي" كيف تمشي هنا؟ فقال: على قدميَّ! رأسي مشتَّت ولكن قدميَّ لا تخطئان الطريق. يحاول أن يسمّي ما نعبرُ. يستعير من الأرشيف تاريخاً وأشخاصاً. فأقول له: دعنا نمشي. فلن تزيدني التسمية إلاَّ تبلبلاً وأنا لم أعرف كيف خرجت من بابل لكي أجد نفسي في بابل أخرى.

بابل تطاردنا مثل مدينة كفافي.

أنظر، ها هي وراءنا

ثمة دخان ولهب وأيدٍ تلوّح بيأس

من أبراجها المهدَّمة.

 

 

قصائد اخرى للشاعر

سير
6 يناير 2019
استعادات
30 ديسمبر 2018
شعر
23 ديسمبر 2018

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.