}

وعكة صحيّة

صونيا خضر 24 فبراير 2018
سير وعكة صحيّة
لوحة للفنان خوان ميرو

 

أول ما فعلته هذا الصباح هو الكفّ عن اعتبار نفسي حالة خاصة، وكوني قررت أن أتحرر من وهم خصوصية تعايشت معه طيلة عمري، أدركت أنني بالتالي، كنت طفلة عادية ومراهقة عادية وزوجة عادية وأما عادية، وأنا امرأة عادية الآن.

أشعر أنني تحررت، فكل ما هو جائز للإنسان العادي بات جائزاً لي، أستطيع الآن أن أكشف عن وعكات الجسد، وتداعيات الزمن عليه، أستطيع أن أرتكب كافة الحماقات الممكنة، وأستطيع أن أبدو بمنتهى البلادة والغباء والسخافة، وألا أكتفي بأن أشعر بأنني لا أعرف بل سأعترف بأنني لا أعرف.

تحررت من علبة الماكياج التي رافقتني طوال العمر، لكي أبدو بوضع أفضل مما أنا عليه.


التفوّق

أذكر أنني كنت أجلس بوضع عمودي مرهق لظهري، وأحرص على أن أطمئن المعلمة بأنني بكامل التركيز والتتبع لكل ما تقول، كنت أطرد تشتتي وأنا أرغم نفسي على التحديق في وجهها، وأحاول التقاط أي دلالة لفظية من بين كل الكلام الذي تقوله والذي لا أفهم منه شيئاً، لكي أنجو من مطبات الأسئلة المباغتة، كله "ماكياج" لكي أبدو تلميذة نبيهة، تهتم بأن تعرف التاريخ المحدد لاتفاقية "سايكس بيكو" مثلاً، هذه الاتفاقية التي لم أعرف عنها يوماً سوى اسمها، الذي واصلت أن تردده المعلمة فاتن إلى أن صدّع رأسي، ورافقني إلى كوابيسي الليلية، حيث سايكس يلاحق بيكو إلى جحره الصغير الممتلئ بفتات الخبز والجبن الأبيض.

أعترف بأنني كنت مراوغة وذكية في التقاط مفاتيح الكلام، المفاتيح تلك التي تأتي دائماً في نهايات العروض التوضيحية والملخص الأخير للكلام الكثير الذي لا لزوم له، وكنت أجيب على السؤال المباغت بدقة لمجرد أنني أركّز في ذلك المقطع الأخير.

 كنت طالبة متفوقة في كل ما يستدعي التحليل والفكفكة، ولا يستلزم ال "ماكياج" الا أن الجزء الخاص بحفظ المعلومات في دماغي كان يفتقر إلى مساحة التخزين، فرغم ولعي بالرياضيات والفيزياء والكيمياء، لم أحفظ يوماً جدول الضرب، وفي أزمات الاختبارات الفورية كنت ألجأ لحجرة التحليل في دماغي وأحتاج دائماً إلى بضع ثوان لمعرفة حاصل ضرب عددين، ألجأ للرقم الوحيد الذي أحفظه وعادة ما يكون حاصل ضرب العدد المطلوب في الرقم خمسة، أضف أو أنقص ثم أنقض مثل صقر جارح على الجواب الصحيح وألفظه عالياً من عقلي ومن فمي.  لم أخطئ الجواب يوماً ولم أفز في مسابقة تعتمد على السرعة يوماً، نعم كنت أفتقد لسرعة البديهة حين يتعلق الأمر بالمسلمات والنظريات، عكس امتلاكي لها أن تعلق الأمر بالتخيّل والنقاش.

 كنت أجيد فهم  لغة الجسد وأجيد توصيلها إلا أنني كنت أفتقد لإشارات الإلحاح، وكنت أعتمد على التواصل بالعيون التي قلّما يفهمها أحد، ملكاتي كلها كانت متوّجة بالخجل والتواري، فقد  كنت أشعر دائماً بأن هنالك من هو أحقّ مني بالجلوس على المقعد الوحيد المتبقي حول المائدة، وأن هنالك من هو أحوج مني للكلام وهنالك من هو أكثر رغبة مني بالوصول إلى رأس الطابور. 


صحة الروح

ليس زهداً خلقياً، ولا ترفعاً مقصوداً ولا مراوغات كتابية لأجل أن أبدو امرأة مختلفة، فقد بدأت اعترافاتي هذه بأنني قد كففت عن اعتبار نفسي حالة خاصة، ربما كان كل ما فعلته وعشته قبلاً، لأنني كنت أعتقد (كما الجميع سواي)  بأنني حالة خاصة، الا أني أكرر بأنني  تحررت هذا الصباح من علبة الماكياج.

صحة الروح وجمالها حازا على الجزء الأكبر من اهتمامي وعنايتي، كنت أحرص دوماً على التأكيد على ذلك وأكابر وأحزن كي لا أنتقص من هذا الجمال ولو ذرة واحدة، كنت أخفي بثور الألم بالابتسامة، وتجاعيد القهر بالإيمان وشحوب البشرة بالورد والود، كنت أحاول التأكيد على أن جمال الروح لا ينتهي وكنت وحدي من لا أصدّق ذلك.


وعكة صحية

كان يجب أن تحدث تلك الوعكة الصحيّة القاسية لأتذكر بأن لي جسداً أيضاً، ولأدرك بأن للقلب دوراً رئيسياً غير ذلك الدور الذي أواصل العناية فيه؛ القلب، لينبض وليوزع حساء الحياة في الجسد، القلب ليخفق ذلك الخفقان المنتظم الذي تنتظم فيه الحياة، القلب ليعترض على الكسل والبلادة والتوتر، القلب، ليكون الجسد سليماً ومعافى.

كان يجب أن يحدث معي كل ما حدث لأختبر مدى عجز الروح إن اعتلّ الجسد، ولأدرك مدى تعلّقها بذلك الوعاء الذي تم إهماله طويلاً. لكن الصفعة التي وجهها لي جسدي كانت الأقسى على روحي وعلى جسدي معاً.

 

في عيادة القلب

جلست بين المرضى في غرفة الانتظار في عيادة القلب، أتنقل بنظري بينهم وأرخي بسمعي نحو غرفة الطبيب، "سلامتك يا حجة"، يبدو صوته مطمئناً وتخرج "الحجة" من الغرفة وهي تتكئ على ذراع ابنها، يحجز لها دخولاً إلى المستشفى فيما أنا غارقة بانجرافي الفوضوي نحو الخوف وأشعر بأن الحجز التالي سيكون لي. الزمن يتمطى فيما أنا بانتظار سماع اسمي بين سعيدة لتمطيه وخائفة لحلوله. أسمع اسمي أخيراً، وفور سماعي له أشعر بسائل بارد يتسلل من عظامي إلى ركبتيّ، أتماسك وأنا ألقي التحية على الطبيب وأحاول أن افتعل ابتسامة لأجره إلى الرأفة بي في حال كشفه عن أمر مستعص.

الطبيب لا يتكلم كثيراً ولا تسعفني كل لغات الجسد للاستغاثة لأجل عبارة أحتاج أن أسمعها. ينهي الطبيب الكشف ويطلب مني الانتظار في الغرفة الأخرى ريثما يعود مريضاً آخر انتهت الممرضة للتو من تخطيط قلبه. هي بضع دقائق، الا أن الزمن تمطى فيها أكثر مما ينبغي، حاولت التلهي بهاتفي الخليوي دون أدنى فكرة عما أبحث عنه فيه، فتحت صفحة الفيسبوك، ظهرت أمامي حالة لصديق أتتبع حالته بشغف، إلا أني لم أتمكن من فك شيفرة لغته التي أجيدها تماماً، عجزت عن قراءة حالة من سطر واحد، سطرُ كنت سأغرق فيه وأذيله بعلامة إعجاب فارقة لو كنت في حال غير هذا الحال. تفقد الأشياء أهميتها وقد يتحول قمراً هائلاً إلى بيضة هشة تدوسها قدمي الخائفة دون أدنى توجس من أن تظلم كل الليالي من بعده؛ الرسائل المتكدسة على واتساب والمسنجر والأخبار التي أنتظرها بخصوص نشر نص لي على موقع إلكتروني مهم جداً لم تعد تعنيني بشيء، تتبع الطرد البريدي المتوقع وصوله من الولايات المتحدة، أصبح فجأة أمراً ليس ذا بال ومحتويات الطرد الذي انتظرته طويلاً تتسلل خارج مخيلتي مثل لص محترف، دون أن تترك أي أثر.

لم أكن شاردة الذهن لأخرج من شرودي وقت دخول الطبيب إلى الغرفة حيث أجلس وانتظاري وخوفي وضعفي، لم أكن على استعداد لسماع أي كلمة خارج موضوع قلقي لأجيب عن سؤاله عن أحوالنا في فلسطين وعن سبب عيادتنا له في الأردن، ولا أعرف بماذا أجبته قبل أن يقول لي، نتائج فحوصاتك جيدة بشكل عام.

"جيدة بشكل عام"! لا بأس فهي تبدو ككلمة السر التي تفتح كل ملفات شجوني، اشتقت فجأة لابنتيّ، تنبهت لإشارات الفرح على وجه زوجي الذي تحوّل من شبح غير مرئيّ رافقني منذ الصباح الباكر إلى آدمي حقيقيّ، تحوّلت الشجرة يابسة العروق بين رئتيّ إلى صفصافة وتنهّدت وأنا أهمس في سرّي لأمي التي تسكنني منذ غيابها عن هذا العالم "يخليلي ياكي".

عدّلت من جلستي وعدلت خصلات شعري المتناثرة بخجل بعد أن تذكرت أن مظهري ليس لائقاً على الإطلاق للقاء أول مع إنسان أراه للمرة الأولى، فأنا من الذين يعتمدون نظرية الانطباع الأول، وأثره على التواصل ونوع العلاقة من بعد ذلك، حرصت وأحرص لأن أكون ناجحة في الانطباع الأول؛ لدى سائق سيارة الأجرة، لدى طبيب الأسنان، لدى موظف البنك والمدرسة وعامل النظافة والمدير... سبب نجاحي في ذلك هو اهتمامي لتحقيق ذلك ورغبتي المستديمة لبث الطمأنينة والحب لأجل طمأنينة مقابلة وحب مقابل، هو نوع من الماكياج أيضاً، فلدى اللقاء الأول بغريب لا أعرف عنه شيئاً، أنا من أقدم الود بمجانية مفرطة متناسية احتمالات الخذلان غير المستبعد حدوثها على الإطلاق.

ابتسم الطبيب ثم أردف، أن علي إجراء أشعة طبقية للاطمئنان فقط بعد أن فهم لغة جسدي الخائف، "لولا تاريخ العائلة والتدخين لقلت إن لا داعي لذلك".

عبارته الأخيرة كانت كافية لإنهاء الاحتفال البسيط الذي نعم به جسدي لبعض الوقت، بعيداً عن الوعي الجارف والعنيد الذي يلازمني، ينبغي عليّ أن أنتظر بضع ساعات أخرى لأتأكد من نظرية الطبيب بأن كل ما يحدث لي هو مجرد هلع وتوتر وقلق. ليس بوسعي الهرب وليس بوسعي البقاء في هذه الحالة من الشكّ. امتثلت لأمر الطبيب ونزلت طابقاً واحداً بالمصعد، على مضض وعلى خوف. جلست مرة أخرى بين المرضى المنتظرين في قسم الأشعة، مترقبين سماع أسمائهم للدخول إلى غرفة المحاكمة، بفارغ الصبر، ليخرجوا بأحكام قد تقلب حياتهم رأساً على عقب، وأنا مثلهم أنتظر دوري لأسمع الحكم الأخير وأواجه مصيراً قد لا يكون من السهل عليّ مواجهته.

يستسلم المريض لأوامر الممرض دون أدنى اعتراض، يصبح مثل آلة على استعداد خالص للتنفيذ، والتنفيذ فقط؛ "استبدل ملابسك بالثوب الأزرق، تمدد على الطاولة، أرخ ذراعيك، استعد للحقن بالمادة الملونة، خذ شهيقاً، احبسه، أطلقه" صفارة طويلة، وينتهي الأمر، التقرير يحتاج إلى ساعتين من الوقت.

يحدث كل هذا كبداية لتصدّع كبير في الجسد الذي تم الاستخفاف فيه كثيراً، وشرخ عميق في الروح التي تم الاعتناء فيها كثيراً أقله في حالتي.

هي القراءات الخاطفة والخاطئة للزمن، هو النكران والتواري، فكيف لم أنتبه لغاية الآن بأن صديقاتي اللواتي في مثل عمري يتناولن أدوية الكولسترول والضغط والسكري ويجرين فحوصات دورية للاطمئنان على سلامتهن من سرطان الثدي، كيف أغفل دائماً عن حرصهن على كميات الدهون والتمارين الرياضية وأتناول طبق الكنافة المشبع بالقطر والجبن كامل الدسم على أني لا ولن أعاني من أي مشاكل صحية، أنا التي لم تجر الفحوصات اللازمة يوماً، ولم تنتبه لسلامة الجسد على حساب المبالغات العرضية للحفاظ على سلامة الروح، هي علبة الماكياج، التي لا لزوم لها والتي لم أتخل عنها يوماً مقابل استخفاف حاد بالواقع والتواطؤ الرقيق مع ما تقوله المرآة، علبة الماكياج الخفية التي لا يلاحظ أثرها أحد ولا يهتم للإضافات الوهمية التي تضيفها أحد .. سواي، فوحدي من لا تقدّر الكفاف الذي في نقائها.


جمال الروح

انهزاماً أو تسليماً لمعتركات الحياة، تراجعاً أو انحداراً على سلّم العمر، نحاول ولو بيأس أن نتمسّك بالجمال الوحيد الذي يتبقى وهو جمال الروح الذي لا يبدأ لكي ينتهي، فالروح إما أن تكون جميلة أو لا، هي لا تتجمّل ولا تتقنّع ولا ينطلي عليها خداع الماكياج، إلا أنها هي التي تخدع الجسد بحنانها المهذب وتوهمه باستدامة التألق، فليس من السهولة بمكان الاعتراف بأثر السنوات على من يمتلكون الأرواح التي لا تريد أن تبرح شبابها.

لقد خرجت سالمة من غالبية أنفاق العمر، من طفلة إلى شابة، إلى امرأة إلى زوجة وأم، خضت هذه المعتركات بوقار واتزان وصعدت السلّم المضني برفق وتأن وحرص كي لا تنزلق روحي، فانزلق جسدي وأوشك أن يتهاوى لمجرد أنني ودون أن أدري علقت في مراهقة الروح وانطلاقها وآمنت لأمومتها المهذبة واستأنست حدائقها السريّة دائمة الخضرة والفراشات.

هي وعكة صحية حاولت إنكار امكانية حدوثها طويلاً، وعكة هذّبت روحي ودعتها للاعتراف بأهمية الجسد ولو كمادة حافظة له.

أعترف الآن بأن علبة الماكياج هي مجرد احتياط عرضيّ لم يضف لروحي شيئاً، بل كانت مرهقة لبشرة ملساء. أعترف بأن ما تقوله المرآة فور الاستيقاظ من النوم هو الحقيقي والكامل والجميل، وأن ما كنت أراه بسيطاً رقيقاً ومسالماً كان جميلاً وكافياً للإشهار .. حقيقياً كما ينبغي.

تحررت من علبة الماكياج، وأدركت أنني لم أكن بحاجة إليها يوماً، تركت روحي لسجيتها، نضجت هذه الروح وأدركت أن هنالك واجباً عليها تجاه الجسد وامتثلت لأن تكون صديقته لا غريمته المكابرة الرافضة لانتكاساته وتداعيات الزمن عليه.

نضجت الروح وخرجت من حدائقها السريّة إلى الامتداد الطبيعي للعشب، لترافق تداعيات الجسد والعناية فيه، مثل ابنة حنونة، تحرص على تذكير أمها بموعد الدواء.

 

 

 

 

 

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.