}

سأكتب عن القبح

أحمد الشمام أحمد الشمام 20 فبراير 2018
يوميات سأكتب عن القبح
لوحة للفنان السوري عادل داوود

كل تماثيل الكون لا تمنحك دفء امرأة أو جسد، ولا يسعفك جمال روحك التي استنطقت الحجر أن تقطِّر دهشةً من صخرة تجثم على صدرك. وهروبا من عبء البحث عن تحليق اللغة في المجاز، أكتب عن أمر لا يحتمل رتوشا، وقد أفشل في ترك لون جميل من المواربة ينثال على اللوحة لتجميل الموت كي يصل لائقا بحياة مفعمة بالقشور ورهافة الموسيقى. رغم أن معزوفات الجُّنّاز صاخبة فإن الموت أخرس، ليس ثقل ما مر بي يكتبني بل ثقل من ظلوا هناك وأطلقوني رسولا للهواء والشمس، إليكم وإلى جدران هذا العالم الأخرق.

مغامرةٌ أن يتحرش كاتب باللغة بعد عامين من خرس، وهو الذي تعود الأجراس تكسر المدى المجدول ضوءًا وريحا. لم يكن حيا هناك سوى عيوننا المفتوحة على احتمال الحياة. في غمرة العجز يظلل الموت كل شيء ويبقي على الأصابع لتكسر بعضها كشعب ينتحر. وحيدة عارية هي الروح في محاولة البقاء كطائر الفينيق يثقله الوحل إذ تهيأ للنار، عامين في الأقبية ثم أربعة عن حفيف الورق في ظل مقولة لا صوت يعلو فوق صوت الرصاص. كم يقتلنا الشعار إذ نختنق منه، ويقتلنا البديل إذ نحوله شعارا، وتاهت البلاد مذ نبت في الأرض خنجر ورصاص، حيث الكلمة تعني الفعل والفضح والتنوير، "في البدء كانت الكلمة"، يحتاج تأثيرها وتحولها تأثيثا في العقل والذاكرة.. الكلمة تعبير لا يخرج من عدم بل من فكرة في المخيلة، تنبجس من عتمة اللاشعور؛ لتشكل وجودا آخر يحفل بالمعنى فتحترق كنجمة لتعلن اتساع هذا العالم الضيق بولادتها.

كل كلمة ما هي إلا وهج معنى منداح في الفضاء تنم عن احتراق عتيق في روحنا الأولى، وتلامس جرحا غائرا في أعماقنا، ومن لا تؤثر به الكلمة ــ الوهج ـــ فليتلمس شذوذ وتشوه روحه عن أمنا الأولى.

"إن لكل منا أجنحة لا يعرفها إلا القليل"- مقولة صوفية دفعتني لأتحسس أجنحتي وأنعتق من الجدران، ليس لأن كل فرد ينزع لما يفقد - الحرية- بل لأسمو أعلى من لحظات جنوني وتحليقي التي عشتها في اللغة والقراءة والعشق قبل المعتقل.

يتكئ الوجود الأعرج على ساقين، واحدة موت والأخرى حياة؛ فهما كائنان يسكنان كل لحظة لا يظهر أحدهما إلا بنقيضه، كل منهما يؤثث للآخر ساحاته وحدوده يولد منه ويلده. وما اللحظة إلا عباءة تنشق عن كليهما، هذه اللحظات التي تعد بالأنفاس بشهقة تُشعر بثقل الهواء، كشهقة غريق يشحذ الهواء فيفاجئه ماء يحمل طعم الموت، يتسلل لعمقك بزفرة أخرى تجترح حياة تكسر رتابة الجدران، تتلمس أو تنحت في الهواء وتدرك أن روحك مقدودة من أثير؛ تقتفي أثرها في الخروج أعلى من الجدران وأعلى من المدينة التي تقمصتَ أرصفتها ذات عشق وياسمين، لتطل برؤيتها كأنك غيمة شهقت سلم الموسيقى آن ضجيج، ثم تعلو عن متضادات كثيرة من بينها السجان ـــ الجدار الأرعن ــــ مائلا على ورد الحياة يهوي بمطرقة وطاقة الحبيس زهرا أو وتدا. غاية الأول تحطيم روحك، أو طمسها، لذا فأنت هنا تخرج بروحك أعلى منهما ومن كل أذرع السجانين في التاريخ، لتضحك وتقول: فليفعلوا ما يشاؤون لن ينالوا مني بتعذيبهم، دميتي الوحيدة التي أمسكوا بها تصبح في منطقة انعدام الوزن، وانعدام الانتماء إلا لإنسانية عالية فتمارس روحك حيادية تجاه جسدك حتى تصبح علاقتها به كعلاقتها بأجساد الآخرين الذين ترتبط بهم لمجرد أنهم أجساد لأرواح مبتلة تتكئ على بعضها حينا وتهوي في حين آخر كركام. يغدو جسدك الحميم ـــ وهو وعاء روحك ـــ طُعما يقع به السجان، وينشغل بالعصي والهراوات التي تتحول من سلاح عليك إلى سلاح لك؛ إن نزعت بروحك لعنفوان التمرد يغدو جسدا فخا فقط. في غمرة الأجساد وعلاقتك المحايدة معها لا تجد لجسدك أي خصوصية، سوى أنه يغدو حصانك الذي اخترت أن تراهن عليه وتهتم ألا يكبو. 

ومثل شيخ يطل في آخر حكمته على ماضيه، بذكريات صورت مكابدته لعداوة رفاق الطفولة في مقاعد المدرسة، تتلمس ندوب روحك كأنك تستحضر تصويرا تلفزيونيا لم تكن تعلم به عن جوعك وأنت راجع من المدرسة في الصف الثالث أو خوفك من معلم الصف، تغدو تلك المتاعب مجرد صور لتمارين الحياة، وتغدو الحياة ذاتها فيلما طويلا بينك وبينه مسافة الإنجاز وهوة الفرجة، مسافة كبيرة بين المتفرج على الحدث والذي يعيشه ــ تلك التي نحاول جسرها بالكلمةــ آنذاك يغدو المرور/العبور صفة كل شيء لكي تتخلص من وهم السجان الذي يراود جسدك بفخاخه الحمقاء، وتنتصر بيقين روحك الشاهق.

*كاتب سوري

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
20 فبراير 2018

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.