}

الوحيد

سوار ملا 19 فبراير 2018
شعر الوحيد
لوحة لرينيه ماغريت

الوحيد

 

إلى روكن..

 

الوحدةُ مدينةٌ والوحيدُ شارعٌ فيها، مسرحٌ أو دارُ سينما.

ننظرُ  إليه، ويرانا من خلف ستارة مسدلة على نافذةٍ تعجُّ بالأوهامِ والكوابيسِ، بالمرضى والجثث، بالرغبةِ الميِّتةِ والأملِ السقيمِ الذي لا مناص منه؛ ننظرُ إليه، من قلبِ العالمِ، فيلمحنا بعينين ناعستين على الألمِ، بنظراتٍ جارحةٍ وقلبٍ يحترقُ في الليل. يرانا ولا يُحرِّك ساكناً.

إنَّه وحيدُ هذا العالمِ، إنَّه الوحيدُ تماماً، الوحيدُ الأصفر كعارٍ لا يزول

الذي منذ قليل مضتْ وحدتُه تاركةً إياه في كفّ الحيرةِ.

إنَّه الشارع تخلّت عنه المدينة، المسرحُ بلا شوارع تصل إليه، دارُ سينما دونما مُشاهدين.

 

قمر

يتعثَّرُ القمرُ بأوهامِ النائمين في وقتٍ متأخِّرٍ،

بجُمَلٍ ممتدَّةٍ كمطبَّات فرَّت من أحاديثِ الأرقين،

بأمنياتِ طلّاب صحوا فجأةً خشيةَ امتحاناتِ الصباحِ،

بأسى عمَّالٍ بظُهُورٍ مكسورةٍ، بلهفةِ عاشقاتٍ في مُقتبَلِ العريِّ، بيأسِ نهودٍ بتَرتها العلّةُ البيولوجيةُ، بموتِ طفلٍ لم يرَ ضوءَ القمرِ.

*

يظلُّ قمراً،

لكنه يهزلُ وتنحسرُ ملامحهُ ويغدو شاحباً كوجهِ المرضى المُحدِّقين فيه من شُرفات المصحَّات وغرفِ الموتِ القريبِ، يغدو شاحباً كآباءٍ ينتحرون من الفقرِ، كبيوتِ الطينِ في الخريف، كأشياء تعرَّفت إليها الكآبةُ إلى الأبد، كجنينٍ لن يلمحَ العالمَ قطّ.

*

لا نجومَ سواه. لا ضياء لغيره.

السماءُ سريرُه والأرضُ تلفازُ سهرتِه الأبديَّة.

وكلُّ من يرى بريقَه أوَّل الفجرِ يدمعُ.

*

عينٌ على شعاعِه

أخرى على الدِّماءِ البيضاء فَوْقَ الأرض.

*

يمرُّ، متقلِّصاً كالمعاقين، أحمر كأنشوطةٍ مدلاة،

حينَ يصدف أن لا أحدَ يراه قطّ

غَيْرَ الحيواناتِ والموتى.

*

ينوحُ القمرُ

مساءً

حين

تغيبُ الشمسُ

ويتدفَّقُ عَرَقُ الجياعِ في لهيبِ المُدنِ الكبيرةِ.

*

ينشدُ القمرُ

كلَّ مرَّةٍ

حين

يغيبُ الليلُ

تنطفئ أضواءُ الكهرباءِ

وتشتعلُ الغاباتُ والأوديةُ وقطعان الخراف.

*

أبي يعودُ

خالتي تعودُ

أجدادي يعودون

جيراني، أبناءُ بلدتي، أبناء بلادي، أبناء قارّتي، أبناء العالم،

جميعهم يعودون بعد انتصاف الليلِ، حين يشتدُّ سحرُ القمرِ، ليتجمَّعوا حَوْلَه في سهرةٍ؛

لأنّ القمر طاولةُ الموتى.

الغياب

 

لا أعي كيف خرجتم من حياتنا،

كيف خرجتم من العالمِ وأقفلتم خلفكم البابَ؟

لا أذكر كلماتٍ ردَّدها أحدكم عن احتمالِ مغيبِه

فكيف غبتم دونما كلماتٍ أو أحرف؟

لا أتصوّر غيابَ ملامحكم عن رؤياي،

أحقّاً تغيبُ الوجوه بهذه البساطةِ؟

لا أيقنُ أنّ بوسعِ من يغيب ألا يعود ثانيةً،

 كيفَ صُنِعَ الغيابُ بهذه الصلابة، من أيِّة قسوةٍ جدرانه؟

لا أستوعبُ أنّ سرطاناً أو طريقاً يأخذُ الإنسانَ بعيداً، وإلى الأبد..

كيف يختفي بلا نهايةٍ، كيف لا يُرى ويذوبُ كالملحِ!

لا أفهم الغيابَ، لا أصدِّقه وأُكذِّبُ من يرتكبه،

بيد أنَّني أحنُّ..

أحنُّ إلى الغائبين، إلى كلماتِهم في أذني، إلى ملامحهم أمام بصريّ، إلى وجودِهم، إلى ما فعلوه في السابقِ، إلى ما كانوا سيفعلونه الآن، إلى ما كانوا سيفعلونه في الغدِ، إلى مستقبلِهم أحنُّ.

لكنَّهم غابوا. دونما سببٍ واضحٍ فضّلوا الغيابَ. دون أن يتركوا في صناديق رسائلنا غير الماضي. دون ندمٍ؟ ربّما.

 

أتساءلُ:

أسنغيبُ بدورنا مثلما فعلوا،

أسنغيبُ أيضاً، هكذا مثل لا شيءٍ، أو مثل أيّ شيء؟

 

سنضمحلُ إذاً..

 

وستتخفّى ملامحنا خلفَ العدمِ ولن يبقى ثمة مستقبلٌ نتحدث فيه مع الرفاقِ والأحبة؛ سنغيبُ عن قلبِ العالمِ ولن يعود يذكرنا الآخرون إلا في الذكريات حين يشتدُّ بهم السُّكر أو اليأس.

هكذا، ببساطةٍ، مثل نجوم لن تشتعلَ ثانيةً، مثل فرحِ الفقراءِ، مثل نسمةٍ في الجحيم أو نظرةٍ أخيرة، سنغيبُ.

 

آهٍ كيف تغيبون وتتركوننا وحيدين نفتِّشُ في فراغِ الجهاتِ عن أثرٍ لكم؟

آهٍ كيف سنغيب ونتركُ لآخرين مهمةَ البحثِ المُنهِكة هذه؟

آهٍ كيف..

آهٍ لا جدوى..

آهٍ من ابتكرَ الغيابَ؟

قصائد اخرى للشاعر

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.