}

صورة شخصية للفشل

السيد طه 13 فبراير 2018
شعر صورة شخصية للفشل
لوحة للفنان الفرنسي روبرت دولونوي

حصلت في امتحان شهر
في مادة العلوم على صفر،
كانت تلك بداية علاقتي بالتفاعلات:
من الصفر تحديدًا.
تعلمت أن أحكي لنفسي حكايات
كي يهدأ جسدي في السرير وينام،
تعلمت أن اللمس حاسة أساسية
في استكشاف الحياة.
منحت انتباهي كله للكيمياء
وأقمت تجاربي الصغيرة في مطبخ بيتنا،
وكان مدهشًا جدًا أن أرى الليمون
وهو يحوّل بياض الملح
إلى التركواز
الذي أصبح لوني المفضل.

(2)

رغم فترات انقطاعه الطويلة عن زيارتي
يظهر العالم فجأة تحت الوسادة،
يهمس لي بذكرياتنا معًا قبل أن أتغير
وأصبح أكثر إهمالًا لمشاكله،
يقول: يداك ناعمتان،
فأخبره: أنا لا أستعمل أي كريم ترطيب
يبتسم ويدعوني للعشاء.

(3)

أنا الان أقل استخدامًا للمجاز؛
تدهشني الجمل البسيطة
تلك التي تحمل داخلها
صدقًا مدويًا.
كأن تقول لي
إنك تريد أن تُقبل غمازتيّ.

(4)

هذا المساء
تضع البذرة في صدرك
بعناية فائقة بعد أن قلّبت التربة جيدًا،
وتركتها في الشمس لأيام حتى جفت تمامًا
وأصبحت صالحة لاستقبال الشجرة الجديدة.
قبل نهاية العام بشهر كامل
تعرف أن العام الموشك على الرحيل
قد منحك هدية قبل أن يمضي.
تنتظر أن يتحرك في صدرك
هذا الوهج؛ الذي تعرف
أنه حياة جديدة تدب فيك؛
للحظة تفهم معنى أن يكون لك رحم.

(5)

تهجرني الأفكار الكبيرة رويدًا رويدًا
ويملؤني الشعر بحب التفاصيل،
مثلًا: أن تنسى كل الكلام
الذي قيل في جلسات مطولة
وتظل تذكر فقط
كيف كانت ملامحه ترتخي
بينما يتكلم عن أمر يشغله،
كيف كانت تفرد أصابعها
كي تلتقط الفنجان،
أن تعبث بشعرها دومًا حين تتذكر
ما كانت ترغب في أن تكونه
قبل أن تكتشف أن لعبة الاحتمالات
قد قذفت بها في أماكن أكثر إثارة،
أن يحاول أن يكذب دومًا
كلما تطرق الحديث إلى مشاعره،
أجمع تلك التفاصيل
أجمعها بحرص شديد
وأنسى ما يُقال
لكني أذكر جيدًا رائحة الكلام
ملمسه وطعمه في أذني؛
لذلك ليس مدهشًا على الإطلاق
أن أرى في كل شخص جديد أقابله
صديقًا قديمًا.

(6)

تخبريني أن ظهركِ يؤلمكِ
وتطلبين أن أدلكه،
أمد أصابعي فوق البلوفر الصوف الأخضر
وأفكر أن ذلك الألم ليس سوى اكتئاب
لماذا لم تكن جلستنا الأخيرة كافية؟
أخبركِ كم تبدين جميلة في هذا البلوفر
تبتسمين كأن الأمر لا يعنيكِ
وتشتكين من السائس الحيوان
الذي يتفحصك كلما اضطررتِ أن تركني في "شارع أبوه".
تنظرين إليّ من خلف أفكاركِ التي لم أفك طلاسمها بعد
تضحكين حين أخبركِ أني أريد أن يكون لي طفل،
وتضحكين حين أخبركِ أن قلبي بيوجعني أحيانًا
كلما رأيت اضطرابكِ وترددكِ،
تتحمسين فجأة وتخبريني أنكِ عرفتي أي نوع من الآباء أنا،
أسألكِ فتجيبين: النوع اللي بيرمي عياله في الميا عشان يتعلموا العوم،
أضحك وأخبركِ أنني تعلمت العوم بتلك الطريقة.

(7)

قصف بيروت 2006،
ليلة أخرى قضيتها أمام التلفزيون
أشاهد الأفلام الأجنبية
الصبح يطلع
فأتسرب في سريري قبل أن يستيقظ بابا
ويكتشف أني قضيت الليلة ساهرًا،
لا أريد النوم
صوت مذيع راديو البي بي سي
هامسًا -
كي لا يسمعه بابا
- ينقل الأخبار
مشارف بيروت
مشارف بيروت
الطائرات والميناء والمطار
القصر الرئاسي
مشارف بيروت،
أسمع لأول مرة بالإف 16 والميركافا.
أحد عشر عاماً مرت:
أتذكر تلك الليلة،
لا شيء تغير في المنطقة
لا شيء تغير في الشرق الأوسط،
لم أعد أتابع قنوات الأفلام الأجنبية؛
أشاهدها أونلاين
- لأن بابا يحتل التلفزيون الآن.
بيروت في الثاني والعشرين من نوفمبر 2017،
للمرة الثانية هذا العام تزورينها
وتعودين برائحة مدينة عرفت الموت عدة مرات ولم تمت؛
هذا مناسب تمامًا لحالي،
أريد معرفة أنني أيضًا سأقترب من الموت ولن أموت.
أتذكر تلك الأشياء البعيدة قبل ساعات
من موعد طائرتك،
أفكر أن حربي مع بابا انتهت
وأنني لم أنتصر ولم أنهزم
فقط اكتسب خبرة مثل بيروت.

(8)

وزعني علماء الديموغرافيا
في جيل الألفية؛
أبناء الثمانينيات حتى منتصف التسعينيات.
ووزعني السياسيون
في اليسار الراديكالي؛
أبناء الثورة.
وضعني علماء الاجتماع
في شريحة قلقة تتربع على قمة لائحة طويلة
وتتذيل لائحة طويلة أخرى.
صنفني علماء الأحياء هوموسبيان
وعلماء المنطق مجنوناً؛
أما علماء الدين
فلم ينتبهوا إلا مؤخرًا لوجودي
ولم يجدوا تصنيفًا مناسبًا بعد.
وفقًا لشهادتي الجامعية
أنا لا أصلح لشيء محدد
ولكني أصلح لكل شيء؛
نوع من الفشل الكلوي
الذي يجعل الجسد في حاجة دائمة لجهاز تنقية الدم.
أخبرني الطبيب النفسي أني مريض
وخلال جلسات مطولة
اكتشفت أن بعض الأمراض بلا علاج
وأن هذا كافٍ تمامًا كي أستمر
في أخذ الحياة في كبسولات - مرة في اليوم صباحًا على الريق.
منحتني دراسة الأدب مرآة مناسبة لرؤية وجهي،
ومنحتني - أنت - شهورًا من الشك
في جدوى كل هذا.

(8)

شيءٌ ما في سريري
يؤلمني
أبحث في الملاءة
فأجدك
مثل كابوس يريد أن ينقضّ
وأنا أقاومه بالسهر.
لا أنام
كي لا أسقط أكثر
في تلك الهاوية،
كي لا تسقط آخر قطعة
من درعي،
كي لا أستيقظ صباحًا
فأجدني في المطبخ
أصنع من ليمونك مربى.


*شاعر من مصر

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.