}

اتجاه الباب المعظم

لؤي حمزة عبّاس 4 فبراير 2018
قص اتجاه الباب المعظم
لوحة لجواد سليم

هنا الباصات مرقّمة، لكلٍ منها رقم، ولكل رقم اتجاه محدد، الرقم (3) ينطلق من (الباب المعظم)، تذكّر ذلك، وينتهي في (ساحة الفتح)، وهو يشبه بذلك الرقم (4) الذي ينطلق من (الميدان) لينتهي في (ساحة الفتح) أيضًا، وقد ترى أن الاختلاف بينهما يصبّ في نقطتي انطلاقهما، لكن من الضروري وأنت تفكّر بطريقة منطقية أن تلاحظ طريق عودتهما، فهما يتفقان فيه مثلما اتفقا في نقطتي الانطلاق، ومن أجل أن أكون دقيقًا سأقول لك بأنهما يتفقان في نصف هذا الطريق ابتداء من (ساحة الفتح) حتى (نفق التحرير)، حيث يغور الرقم (3) مخترقًا صندوق الكونكريت، فيما يتريّث الآخر فوق النفق ليستدير في نصف دائرة جهة (شارع الرشيد)، في أولها يكون نصب (جواد سليم) إلى يمينه، وما إن يكمل استدارته حتى يُصبح على الجانب من (موقف السعدون)، ثم يعود ليميل جهة اليمين فيصبح في فم (شارع الرشيد).

من قلب النفق سينبثق الرقم (3)، في طريق طولي باتجاه (ساحة الخلاني)، ثم (ساحة الوثبة)، بعدها ستنبح كلاب (سوق الغزل) لضجيج الباص وتنتفض الطيور في أقفاصها، وستنعكس صورته على زجاج اللوحات الشعبية المعلّقة على سور (جامع الخلفاء)، بنقوش الجلي ديواني المحكمة وهي تنزل منسابة في قضبان الحديد الملوية، كثير من الباعة المنتشرين فوق جسر المشاة سيرون مشهدا متكررًا لن يراه غيرهم وهم يرصدون مرور الباص من أعلى الجسر إذ يوصل طرفي (الشورجة).

سيمسُّ الباص طرف (الميدان) الأيمن حينما يتوقف في (الفضل)، راجعًا لمنطقة انطلاقه، أما الآخر فطريقه (شارع الرشيد) بجلبته وزحامه وانفعال سائقيه، ليتوقف، بعد أخذ وردّ، عند الحافة اليسرى من (الميدان). شركة بغداد وحدها لا أرقام لباصاتها، وهي تسير خلافًا لباصات المنشأة العامة في خطٍ ممدود من (ساحة النصر) حتى (باب المعظم)، بلا استدارات ولا فروع ولا انحناءات، سترى أنه طريق عودة الرقم (3)، وأقول عليك بالدقة فساحة (النصر)، بالنسبة للرقم (3)، ليست بأكثر من محطة مهمة ولا يمكن للسائق اجتيازها، نعم، لكنها واحدة من بين محطات مهمة تمتد من (الباب المعظم) حتى (ساحة الفتح) وبالعكس.

في تمام العاشرة صباحا عليك أن تكون في (ساحة الفتح)، جالسًا تحت المظلّة اليمنى، بين قدميك حقيبتك الجلدية السوداء، سيكون باص الشركة، كعادته في العاشرة من صباح كلِّ يوم، متوقفًا أمام المظلّة الجانبية، قريبًا من كشك البطاقات، بينهما، تحت المظلّة الوسطى، تجلس سيدة أربعينية ترتدي معطفًا طويلًا، على كتفه، جهتك، شريطان جلديان متقاطعا. المعطف من صوف أسود اللون كذلك شريطا الجلد، غير إن التماع جلدهما يجعلهما واضحين كأنهما من سواد مختلف. ستفتح السيدة حقيبتها بيد خالية من الخواتم، وتخرج ورقةً مطويةً ثم تغلق الحقيبة وتبقى الورقة مطويةً في يدها، ومن دون أن تفتحها تنهض لتسير باتجاهك، عشر خطوات تفصل بين المظلتين، ستقطعها ببطء، تفتح قبضة يدها التي تمسك بذراعي الحقيبة القصيرتين، ثم ترفع يدها مثنيةً إلى أعلى بعد أن تدخلها في الذراعين، تنزل الحقيبة وتستقر ذراعها في الزاوية الحادة بين الساعد والكتف. حيث يكون بإمكان السيدة أن تفتح الورقة بيديها الاثنتين، تتحرك في جلستك إلى الطرف الأيسر من المصطبة وتسحب حقيبتك بين ساقيك، ليتسنى للسيدة أن تسألك وهي ترفع رأسها عن عيادة الدكتور عبد المنعم الجلبي، أخصائي المفاصل والعظام، عليك أن تتأمل وجهها قبل أن تجيب، تنتبه لعينها اليسرى لترى تحت الجفن الأسفل نقطةً لن تبدو بوضوح، على الرغم من قصر المسافة بينكما، ما إن ترى النقطة حتى تمدّ يديك إلى حقيبتك، ترفعها من بين قدميك فترى السيدة قد أعادت ثني الورقة وأنزلت يدها فاستقرّ ذراعا حقيبتها في قبضتها من جديد، تقول لها بصوت معتدل بأن الدكتور عبد المنعم الجلبي أخصائي المفاصل والعظام قد انتقل منذ مدّة إلى (الباب المعظم)، ثم تظل واقفًا ترقبها وهي تستدير، ورقتها المثنية بيد وبالأخرى ذراعا الحقيبة، تنزل إلى الشارع قريبًا من صفّ سيارات النقل الصغيرة التي تقف على الجانب المقابل، حيث يتجمع السواق، تمرّ من دون توقف متجهةً صوب الدلّال بدشداشته الرمادية وقد بدا طوق فانيلته حائل اللون من صدر الدشداشة المفتوح. تسأله فيشير لأولى سيارات الصف، ثم ينادي، تسمعه من مكانك وترى السيدة وقد استقرت في الكرسي الخلفي وحيدةً، ثم ترى أحد السواق ينفصل عن الجمع ويُلقي، بحركة سريعة من يده، سيكارته المشتعلة وهو يشير بيد مفتوحة إلى الدلّال فيتوقف عن النداء. تتجّه، بعد أن تنطلق السيارة، صوب الباص، في الداخل تمدّ يدك إلى جيب سترتك الخارجي، تخرج البطاقة الشهرية، سيقول المحصل بنفور: ما تمشي، يقصد البطاقة الخاصة بالمنشأة العامة لنقل الركاب، ويضيف: الباصات أهلية، فتعرف أن عليك أن تدفع الأجرة، تمدّ يدك بالبطاقة إلى جيب السترة الداخلي وتلتقط ورقة مالية فئة خمسة وعشرين دينارًا. فوق رأسه، أعلى زجاج النافذة الأمامية، ستشاهد بطاقات بريد ملصقة بمناظر طبيعية وطيور وترى عقودًا من زهور بلاستيكية قديمة ومحببة تتدلى أسفل البطاقات، تتحرّك نحو السلم الداخلي لتصعد إلى الطابق الأعلى، تمسك حقيبتك بيد وبالأخرى أنبوب الدرابزين البارد الصقيل. في الطابق الأعلى لن يكون قد سبقك أحد، تجلس في الكرسي الخامس جهة اليمين بعد أن تضع الحقيبة في الفراغ بين الكرسي والجدار، ثم تُسند كتفك إلى زجاج النافذة التي تنظر فيها باتجاه الرصيف المقابل، حينها يكون الرجل قد خرج بقميصه الأبيض من معرض النصر لتجارة منتجات المنشأة العامة للجلود وتوقف رافعًا يده كأنه يعاني من خدر وقد انطلق الباص.

تأكد أن العديد من العيون تتابع الباص هو يشقُّ (شارع السعدون)، وترصد بوضوح النافذة الثالثة من الطابق الأعلى براكبه الوحيد وهو يُسند كتفه إلى الزجاج، من شقق في العمارات، أو من عيادات الأطباء، أو من مختبرات التصوير، أو من المطاعم، أو من معارض الأنتيكات، أو من بين الباعة على الأرصفة، وفي الوقت الذي ترى فيه مصلّح الساعات السوداني قد أسند يديه إلى حافة منضدته الزجاج ووقف ظهره إلى (جامع الأورفه لي) وعيناه تحدّقان في الباص، ستشعر بانخفاض الشارع وبالباص وقد ازدادت سرعته ليتوغل، عندئذ، داخل (نفق التحرير). سيتوقف بعد النفق مباشرة، أمام أولى مظلات المنشأة، حيث يكون بانتظاره جمع من الناس، من مكتب الشاهين للمرمر سيخرج شاب بسترة رمادية وبنطلون أسود ذي حافة مقلوبة، في إحدى يديه ظرف خاكي بنصف حجم ورقة الكتابة، يتوجّه فورًا نحو الباص، لن يصعد إلى الطابق الأعلى، بعد حركة الباص، غير الشاب، ستلاحظ شعره مفروقًا من الجانب، ثم يبدو وجهه، مع صعوده السلّم يحوّل الظرف من يده اليمنى إلى يده الأخرى ليستقر بالأولى على أنبوب الألمنيوم، مع حركة اليد سترى خاتم الفضة بلا فص فتعرف أنه هو، وتدير وجهك متطلعًا لمكاتب المرمر والكاشي والحلان حتى يجلس على أول الكراسي، أمامك، ثم يضع الظرف، من دون أن  تراه، على الكرسي ويرفع رأسه إلى إشارة المرور أمامه وقد توقّف الباص بعد أن أضيء الأحمر فيها، إلى يسارك مديرية الجنسية والأحوال المدنية العامة، في ركنها تمثال الرجل المعلق وقد تدلّت ساقاه عاريتين في الفراغ، وإلى يمينك (جامع الخلاني)، من أمام الجامع سترى سيارة الأجرة تمرّ دون توقف، على سطحها دولاب خشب أو صندوق معدات مربوط بحبال من طرفيه، قد تتصوّر الدولاب، في لحظة شك، نعشًا فيراودك شعور أسى خفيف، لكن إدراكًا خفيًّا يؤكد لك أن النعوش لا تُزج، عادة، في الشوارع الداخلية المزدحمة، بل تمضي بها سيارات الأجرة، في سرعة خاطفة، خارج المدن، على شوارع المرور السريع، كي لا تتعفن الجثث في اختناقات الشوارع الداخلية. في هذا الوقت بالتحديد تمدّ يدك إلى حقيبتك تضعها على قدميك وتسحب كتاب (طائر الحياة) بطبعته الأولى لعام (1952)، الصادرة في بيروت عن مؤسسة النجوم البعيدة للنشر والتوزيع، تفتحه على الصفحة الخامسة والستين وتقرأ ريثما يُطفأ الضوء ويتحرّك الباص، سيتوقف مرة أخرى، قبل الوصول إلى (ساحة الوثبة)، قرب مديرية ماء ومجاري المدينة، تحت المظلّة فتاة محلولة الشعر بقمصلة جلد بنيّة وبنطلون أزرق، تشاهد الصليب من مكانك، يتدلى على صدرها، بعد أن تقترب من الباص، مع تحرّكه تكون قد أرجعت (طائر الحياة) إلى القفص أو الحقيبة، وقد صعدت الفتاة إلى الطابق الأعلى، فتراها، وهي تسير في الممر، وقد ارتدت حذاءً رجاليًا تعلو مقدمته قطعة نحاس مستطيلة نقشت عليها بشكل بارز حروف إنكليزية، ستجلس وراءك، فتستمر بملاحظة ما يحيط بك، ليس المطلوب ملاحظة كل شيء، قد يقلل ذلك من جدارتك، وربما شتت انتباهك، عليك ملاحظة ما يكون ضمن المهمة فحسب، وعليك أن تدرك أن العديد من الأماكن استخدمت لرصد حركاتك، أدقها وأكثرها خفاءً.

في (ساحة الوثبة) سيشير وجه ساعة الساحة إلى الحادية عشرة والنصف، في حين يشير الخلفي إلى الثالثة، لن تفكر في مسألة اختلاف الوقت هذه أو تشكّ في حركة عقارب الوجهين، لأنك لن ترى منهما غير وجه واحد عليك أن تثق بصدق إشارته منتظرا التوقف القادم للباص عند (سوق الغزل) في زحام السيارات، وتنقّل الناس المستمر بين ضفتي الشارع، واشتباك عربات الخشب، ستنبح الكلاب المعروضة وتنتفض الطيور، وفي جانب السوق سترى رجلًا متوسط القامة، أصلع الرأس بجلدة لامعة خفيفة الحمرة، يضع نظاراتٍ طبيّةً مستديرة العدسات، يحمل على يده صقرًا ملموم الجناحين، وهو يترك كشك الكونكريت وقد علقت على واجهته أقفاص من خشب وأخرى من حديد، ستراها جميعًا خاليةً مشرعة الأبواب وترى الرجل يتقدّم من بين الباعة باتجاه الباص.

كلما اقترب الرجل ازداد شكك في معرفته، وستحاول تذكّره بنظارته وصلعته خفيفة الحمرة، محاصرًا بحركة الباص البطيئة وبأمواج الأجساد وهي تلفّه حتى تغيّبه في أعماقها، فيما تظلُّ صورة الصقر ثابتة أمام ناظريك، بانتباهته الساكنة كأنه محنّط أو منحوت، تستدير إلى الشاب داخل الباص لتجد الكرسي فارغًا، ثم تقرأ مع اندفاعة الباص البطيئة الآية المكتوبة بقضبان الحديد وهي تتكرّر أعلى سور (جامع الخلفاء)، وكمن لا يسمع ستسمع صوت الفتاة وهي تسأل من الخلف عن عيادة الدكتور عبد المنعم الجلبي، أخصائي المفاصل والعظام، فتقول لنفسك بصوت واطئ هذه المرّة بأن الدكتور عبد المنعم الجلبي أخصائي المفاصل والعظام قد انتقل إلى (الباب المعظم) في (الشورجة)، سترى من الناس، في مساحة ضيقة، أكثر مما رأيت منذ صعودك الباص حتى جسر المشاة، يتزاحمون على الرصيف مقابل سوق (فرج علي الصالح)، في جلبة لا تنقطع، لكي تُدرك معنى جلبة (الشورجة)، باحتدامها وانفعال أناسها، وتتحسس لاختناق الأجساد شكلًا تفرضه حيوية الموقع، يمكنك أن تتصوّر نفسك تلتقط بعين البائع، من فوق جسر المشاة، لحظةً منفلتةً في جدار التماسك البشري، بعدها سينزل أحد أصحاب عربات الخشب دافعًا عربته إلى الشارع، بين زحام السيارات فيصدم، عن قصد أو من دونه، جانب إحدى سيارات الأجرة، عندها ينزل السائق فائر الدم، يرفع قبضته مهددًا أو شاتمًا وقد ابتلع الزحام صوته، ينزع صاحب العربة خطافًا معلّقًا إلى ذراع عربته ويتوجّه مندفعًا صوب السائق، سترى أنهما شابان لم يمض على إنهائهما الخدمة وقتٌ طويلٌ، وربما كانا قد تجاورا، زمن الحرب، من غير أن يتعارفا، في حوض عجلة، بعد أن قضيا إجازتيهما الدوريتين في مدينتين بعيدتين عن بعضهما، سيحاول الباص المرور مثل جميع المركبات، بدأب وإصرار يشقّ الزحام مخلّفًا وراءه الشابين ولما يكونا قد أكملا نزاعهما بعد...

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.