}

كما لو أنها أشجار

سوار ملا 14 ديسمبر 2018
شعر كما لو أنها أشجار
بيكاسو

غِبْ

 

تنهضُ أحلامُكَ من خرابٍ صنعتْه كوابيسُ الفجرِ

تنبجسُ من ذاكرتِكَ مرتعشةً

كما لو أنها أشجار

تُحرّكُها رياحُ الشتاء

في مدينةٍ مدمّرةٍ؛

 

أنتَ، وجهاً لوجه،

أمام مغيبِ ما حلمتَ به

 

تفكّر

في رقّةِ ما يغيب

ما لن تُبصره أيّ عين مفتوحة

ما ينجو برشاقةٍ من مرارةِ أن يصبحَ حقيقةً

 

فتقفلُ عينيكَ، مردّداً:

غِبْ؛

 

غِبْ

أيّها الحلمُ

كأغنيةٍ لم تُفهَم

وسيبقى لحنُكَ في أذني إلى الأبد

 

كسوناتة مهداة إلى أورفيوس

وستظلّ كلماتُك تُقَال بكلّ اللغاتِ

 

كوجهٍ لم يُرَ قطّ

كوجنةٍ لم تجفِّفها نظراتُ المتحسّرين

كشفتين غرقتا بسرعةٍ في قبلةٍ وحشيّةٍ

 

غِبْ 

بهدوءٍ

كما لو أنَّكَ غفوةٌ

في ظهيرةِ مدنٍ تجهلها الخرائطُ والجيوش

 

غِبْ

كالحياة بعد الموتِ

كاللونِ في الظُلمةِ

 

غِبْ

أيّها الحلمُ

كهمسةٍ في حرب.

 

**

أنتَ

 

أنتَ في الباحةِ الخاليّةِ

تُرهف السمعَ لحفيف البجعِ في البحيرة المقابلةِ

وتلمحُ، فجأةً، هيئةً تروح وتجيء أمام بصرِك، بعجالةٍ مريبةٍ

فتقفُ مرتبكاً وتسدّد نظراتك نحوها

دون أن تبصرَ شيئاً واضحاً.

 

"ما هذا؟ ما هذا...؟"

يتساءَل صوتٌ أنثوي مألوف

لكن، ما من أحدٍ هناك،

أنتَ وحدك

أمامك هيئةٌ لا تهدأ لتمعن النَّظرَ إليها

ومن مكانٍ ما، تجهلهُ،

يتناهى إليك

صوت دافئ يتساءلُ مليئاً بالخشيةِ

 

تتجمَّد في مكانكَ

 

يمرُّ بجانبِكَ مراهقون يدخنون الماريغوانا

ويستمعون لموسيقى إلكترونيّة صاخبة

يتبادلون الطرائف، ويقهقهون مردّدين:

آهٍ، لا أحد هنا، لا أحد على الإطلاق!

 

تصيحُ

فلا يصل صوتَك أبعد من أذنِكَ

تهرول نحو الصبيةِ كطفلٍ ضائع، تصلُ إليهم، تهزُّ أجسادهم بقوّةٍ لينتبهوا إليك،

وتصرخُ:

كلا، لستم وحدكم؛

ها أنا ذا، ها أقفُ أمامكم، ألا ترونني؟

آه أتوسّل إليكم.

 

لا أحدَ يشعر بكَ

يجلسُ الصبية على مقعدكَ،

فتجلسُ إلى جانبهم، مثل لا أحد،

تستندُ كتفَ أشدّهم رهافةً

وتغرقُ في دموعِكَ

التي تفيضُ بغزارةً

لتحملكَ قارباً هشّاً على سطحِ عدمِكَ.

 

**

تمرُّ الغابة، يمرُّ القطار

 

تمرُّ الغابة بالقطارِ، الأبنيةُ التي شيّدها معماريو ما بعد الحداثة، الطرقُ السّريعةُ الموسّعة في زمن النازيّة، الغيومُ المرسومة كخارطة العالم في ظهيرةٍ باردة، الذكرياتُ المهرولة كأطفال ناجين من مجزرة نُسيت، القبرُ الذي ولدتُ من شهوتِه، الكلماتُ التي حلمتُ بها دون أن أنطق منها حرفاً، الأمنية الوحيدة التي ترعرعت في قفصي الصدري وحلَّقت كعصفور تُسقطِه أوّل نسمة.

 

يمرُّ القطارُ بالغرباءِ الكثيرين، بمفرداتهم المستعجلةِ في نهار عمل، بأوراق الضرائبِ وساعاتِ مواعيد لا تنتهي، بصناديق البريد الموضوعة كقنابل موقوتة أمام الأبواب، بصبية يدخّنون الماريغوانا في المحطات، بمستقبل لن يفي بوعودِه الألف، بكَ أيّها الغائب في حقولٍ دُمِّرَت.

 

من في القطارِ يحلمونُ بحياةٍ لن تتحقَّقَ خارجه،

والذين يبصرون القطار من الخارج يسرحون بخيالهم في أمكنةٍ لا يبلغها أي قطار.

 

يتوقّف القطار، يهبطُ الركابُ ويصعدُ المنتظرون. الأدوار تُبدَّلُ ولا يذوب الجليدُ الذي تحمله البلادُ في قلبِها.

 

**

 

بابلو بيكاسو

 

أعرفُ

 

أنَّ بيكاسو لم يبحث قطّ

كانَ يكتفي بالعثورِ على الأشياء

وذاتَ ظهيرةٍ، لما كان يتمشّى، متمهّلاً،

على ضفةِ نَهرٍ

تفكَّكتْ على سطحِه الشمسُ الساطعةُ

فتجلّى التكعيبُ عروساً من مياه زرقاء ونور

 

 

أنَّ بيكاسو يحبّ الطبيعة

تلكَ التي بأبعادٍ مرنةٍ حرّة؛

أنَّه، وقتَ كان طفلاً، كثيراً ما حلمَ

بأطرافه وهي تنمو بجنونٍ لتبدو وكأنّها لعملاقٍ

قبل أن تتقلَّص، ثانيةً، على وجه السُّرعةِ، لتصبحَ أطرافَ جسد قزمٍ.

 

 

أن بيكاسو أضعف من الرسمِ

أنَّه كان يتركَ جسده في الخارجِ قبل أن يباشرَ العملَ

أنَّ اللوحةَ تأمرُه أن يُصيِّرها ما تشتهي

أنَّ خوخَةً قد تكون جوهرَ العملِ دون أن يلحظَها النّاظرُ

 

 

أنَّ بيكاسو تسلَّلَ في الليلِ

إلى "الغرنيكا"

وتمدَّدَ كطبيعةٍ صامتة

بين رأس مقطوعٍ وصرخةٍ محلِّقةٍ

حين أقفلَت الحياةُ عينيه

 

أعرفُ

أنّ الظلامَ يجب أن يعمّ في الأنحاء

وتظلّ القماشةُ مُضاءةً

لنُبصِرَ

الفاتنَ في الفجيعةِ

المُفجِعَ في الفتنةِ

 

 

 *شاعر من سورية

 

 

قصائد اخرى للشاعر

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.