}

الهارب

كمال عبد اللطيف كمال عبد اللطيف 10 نوفمبر 2018
سير الهارب
لوحة للفنان السوري فادي يازجي

 

كنت على أهبة السفر في أحد المطارات، فالتقيت أحد أصدقائي القدامَى، وأثناء تبادلنا للتحايا بكلمات تُذَكِّر بجوانب معينة من عمق الروابط التي بيننا، فاجأني قائلاً: أنت مُسافرٌ كعادتك؟ فأجبته بتلقائية، لست مسافراً كما عهدتني في عقودٍ خَلت، إنني اليوم هارب.. فانتبه للطريقة التي نطقت بها جوابي، ثم خاطبني وقد عكست ملامحه نظرة خوفٍ وتعجب، أنت هارب من ماذا؟

وجدت نفسي عاجزاً عن الجواب على سؤاله الثاني، وأخبرته بكوني وإلى حدود هذه اللحظة، لا أعرف بالضبط مبررات هروبي، كما لا أعرف أنا هارب من ماذا؟.. وتبينت بعد أن ابتعد عني، أنني وجدت بالصدفة التفسير المناسب لولعي المتجدد بالسفر، وأن نعت الهروب الذي بَدَرَ مني كمرادف جديد للسفر ولأسفاري في السنوات الأخيرة بالذات، يعبِّر في كثير من أوْجُهِه عن تعلقي المتزايد بالسفر ومُتَعِهِ التي لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى.. صحيح أن سفري اليوم يختلف عن نمط الأسفار التي استأنست بها إلى حدود نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة، حيث لم أعد أسافر فقط أثناء عطل الصيف السنوية، أو أثناء العطل الموسمية المرتبطة بمناسبات وطنية أو دينية، بل أصبحت بعد تقاعدي عن العمل أسافر باستمرار. كما أنني لم أعد أستقر أثناء سفري في المخيمات الموجودة في ضواحي المدن أو على الشواطئ، بل أصبحت أقيم في فنادق وبيوت أحرص على اختيارها بعناية وترتيب مسبقين، مثلما كنت أفعل في السابق، وأنا أبحث عن المخيمات التي تسعفني بإقامة مريحة مع أفراد عائلتي.

لا علاقة لمفردة هروب في جواب على سؤال صديقي، بالإيحاءات التي تحملها الكلمة عندما نَقْرِنُهَا بهروب المناضلين الثوريين أو هروب الفوضويين والعدميين، فلكل من هؤلاء أُفُقٌ يحلم به، ووجهة يروم بلوغها... وهم يتخذون الهروب مَطيةً وطريقاً لترتيب صوَر عودتهم أو عدم عودتهم إلى أوطانهم... إن هروبي أقرب ما يكون إلى حالة نفسية مرتبطة بأحوالي الصحية العامة، وما نتج عنها من ندوب وآثار مُحَدَّدَة في عقلي وجسدي.. وقد تحوَّل العالم أمامي بفضله إلى نوافذ مفتوحة على مدن وساحات وجبال وشواطئ وأسواق وبشر.. وفي مختلف الأمكنة التي ذكرت، أجد نفسي أمام متع وخبرات جديدة، لا يعرفها إلا الذين يؤمنون بفضائل السفر ومزاياه المتجددة.

لا يمكن إدراج هروبي ضمن صور الهجرة والتهجير، التي تحصل اليوم في المجتمعات التي تعرف كثيراً من الكوارث الطبيعية والحروب وكذا الصراعات السياسية والاجتماعية. وإذا كان من المؤكد، أنني أشترك مع بعض من ذكرت في فعل الهروب، فإن مبررات هروبي والأفق الموجِّه له يختلفان عن مبررات الآخرين، وعن الآفاق التي تواجههم، ابتداء من خطواتهم الأولى في البر أو في البحر، إلى ما يترتَّب أحياناً عن مواجهاتهم الصعبة والمخيفة لما يصادفهم من صعوبات أثناء الهروب وبعده..

يناسب التغير الذي لحق نمط أسفاري في السنوات الأخيرة، جوانب عديدة من التحوُّلات التي عرفتها في حياتي، وهو يحتفظ بروح المتعة التي ظلت لازمةً ثابتة في مختلف أسفاري. ولا أقصد بالمتع هنا، ما أصبح يعرف في وكالات الأسفار ببرامج الرحلات السياحية والعلاجية، حيث يتم ترتيب أسفارٍ جماعية لبلدان ومدن وحدائق ومتاحف وآثار وأسواق، بطريقة تساعد المسافرين على اكتشاف ما يرغبون فيه.. أما المتع المقصودة في أسفاري فترتبط أولاً وقبل كل شيء، بمبدأ المعاينة الذاتية لمختلف مظاهر الحياة، حيث أنخرط أثناء أسفاري، في تَمَثُّل جوانب من الأبعاد الثقافية للأشخاص والأمكنة والأصوات واللغات والطعوم، دون حاجة إلى تدبير أو ترتيب من وكلاء..

تعلمت من تجاربي العديدة في السفر، أن المشاهدة والسماع والإقامة والحوار العفوي تزيدني اقتناعاً بوحدة المصير الإنساني، وذلك خارج طقوس مفردات الهوية الخاضعة لمنطق الحسابات السياسية وحدها.. إن أسفاري تزيدني اقتناعاً بالجوامع المشتركة بين الأمم والشعوب في التاريخ، إنها تُفضي بي إلى ما تعلمته من كتب الرحلات التي تحضر في كل الثقافات لتقدم الدليل على تشخيص المشترك الإنساني، وتبني بكثير من الشواهد والوقائع الهامة ما يُبرز واحدية التاريخ البشري، ووحدة مسالكه وآفاقه..

تعلمت من أسفاري التي زرت فيها مدناً عديدة في أوروبا وفي العالم، أن الجوامع الناظمة لمظاهر الحياة والعيش، في القرى والمدن في مختلف قارات المعمور تُعَدُّ خير دليل على وحدة النزوعات والطموحات والمصائر البشرية.. ومن أسفاري وما تركته في عقلي ووجداني وأنا أختلط مع الآخرين في الأسواق والمطاعم والحدائق، أدركت أن خطابات الهوية التي تقوم بنصب جدران سميكة أمام المثاقفات الجارية في العالم، لا تساعد على فهم أعمق وأشمل للتاريخ..

يتواصل سفري أحياناً دون سفر فعلي، فقد أصبحت أسافر بأشكال عديدة، حيث ألجأ بين أهلي وداخل بيتي ومدينتي لركوب مطايا عديدة، تنقلني بكثير من السحر والخفة والسخاء، إلى مواصلة تحصيل مُتَعٍ أخرى من أسفاري الافتراضية والمتخيلة.. لكن لماذا أصبحت لا أجد أي حرج في مرادفة حالات سفري المتلاحقة دون انقطاع بالهروب، لماذا يتواصل هروبي من ذاتي ومن الأعطاب التي أصابت جسمي، مخلِّفة جملة من الآثار التي جعلتني أحياناً غير قادر على التعرف على نفسي.. إنني اليوم أسافر بالقراءة والحلم، كما أسافر وأنا أستمع لمقطوعات موسيقية أو أقرأ أشعاراً، وأسافر بشكل مركَّب ومضاعف عندما أصادف نصّاً تحرك كلماته جوانحي وتحولني إلى طائر في السماء، أو تهبني دمعة أو ابتسامة أكون في أمَسِّ الحاجة إليهما.. إنني أهرب من حالات أجد فيها نفسي أمام كائن آخر لا أعرفه تمام المعرفة، كائن اخترقته عِلَلٌ وتحوُّلات عاصفة وتركت آثارها واضحة في جسده، لتصنع منه شخصاً قادراً على الهروب، بحثاً عن ذاته الأخرى، وقد أصبحت في حكم الذات الغائبة والهاربة...

تواصلت مواعيد وأمكنة سفري دون انقطاع، ولاحظت بأنني كنت أثناء سفري أبحث عن أمر ما، أبحث عن يدي اليمنى التي انفلت جزء منها، رغم أنها ظلت في مكانها فأصبحت أمام يد أخرى، معرفتي بها دون معرفتي بيدي اليمنى.. لم أتمكَّن من استرجاع ما انفلت من يدي.. فأصبحت ذاتي مختلفة عن الذات التي استأنست بمصاحبتها عقوداً من الزمن.. صحيح أن العلل التي أصابتني شملت أعضاء أخرى في جسدي، ولكن هل يمكن فصل الذات عن الجسد الذي يحملها وتسكن إليه؟

كنت في أسفاري السابقة متصالحاً مع نفسي، فكنا نسافر معاً.. أما اليوم فإن أسفاري تهرب من جسدٍ لم يعد كما كان في السابق جسداً لها، إنها تهرب منه بحثاً عن جسد وعن أحوال مرتبطة به تفتقدها اليوم.. فهل ستمكنني أسفاري، هروبي المرتب والمتواصل من استعادة المعتل والمفقود في الجسد؟

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.