}

الغياب

إسكندر نعمة 28 نوفمبر 2018
قص الغياب
تزينغ يونغ نينغ

أيقنَ جدّي أنّه ليس وحيدًا في البيت، الجميعُ منتشِرون في أرجاء البيتِ الواسع، ولكنّه كان مُتأَكِّدًا أنّ أحدًا ما لن ينتقلَ من غرفةٍ إلى أُخرى، ولن يختلسَ النّظرَ في هذا الاتّجاه أو ذاك، فكلُّ فردٍ من العائلةِ الكبيرةِ مُلتزِمٌ غرفتَه، يُمارسُ فيها هوايتَه المُفضَّلَة. اطمأَنَّ جدّي إلى أنّ كلَّ ما سيفعلُه لن يراه أحدٌ، ولن يسأَلَه أحدٌ عن شيء من تصرّفاته، فأخي الأكبرُ كعادتِه يقبعُ في غرفتِه ولن يبرحَها مهما حصلَ، لأنّه مُستغرِقٌ في قراءِةِ روايةٍ عاطفيّة.

رفعَ جدّي نظّارتيْه السّميكتين، وراحَ يتحسَّسُ جسدَه برويّةٍ غير معهودة. وفجأةً أخذَ يخلعُ ملابسَه التّقليديّةَ قطعةً إِثرَ قطعة، حتّى غدا عاريًا لا يسترُ جسَدَه شيء حتّى ورقة التّوتِ... راحَ جدّي يتفحّصُ جسدَه النّحيلَ الضّئيلَ، ويلامسُ قامتَه المُنتصبَةَ الممشوقةَ بأَناملَ مُرتجفةٍ وكفّين معروقتين، وذراعيْن كتلكَ الأسواكِ الّتي كان يضعُها ليسندَ فيها الأشتالَ في حديقةِ بيتِه الرّيفيّ الجميل.

قادَتْهُ قدماهُ باتِّجاه الحمّام. كان يسيرُ بخطُواتٍ ثابتةٍ وواثقةٍ. خاطبَتْه نفسُه هامسةً: "ما زلْتَ قويًّا يا رجل، لا تخْشَ غائلَةَ الزّمن، لا تستسلم". ولَجَ عتبةَ الحمّامِ مُبتسِمًا لهذه الخواطر الجميلةِ. أغلقَ البابَ بهدوءٍ اعتادَه دائِمًا. أَعادَ التَّأمُّلَ المُطمئنَّ إلى جسده النّحيل. استعانَ بالمرآةِ المعلّقة على الجدار الجانبيّ. كانت المرآةُ تملأُ نصفَ فراغِ الجدارِ، ولكنّها كانت قد ازدادَتْ قتامةً جرّاءَ توالي السّنوات المديدة، الصّدأُ الأسودُ يملأُ حوافيها ويأكلُ بهاءَ انعكاسِ صورتِها. هالتْهُ الثّنايا وأَشكالٌ من الكهوفِ والتّضاريسِ تملأُ ساحةَ جسدِه. استدارَ في كلِّ الاتّجاهاتِ. ضحكَ كثيرًا، واكفهرّ وجهُه أحيانًا أُخرى. مدَّ يدَه ولامسَ بأطرافِ أَناملِه سقفَ الحمّام. أيقنَ أنّه ما يزالُ نشيطًا قويًّا وحمدَ ربَّه أنّ التّضاريسَ المُخيفةَ لم تستهلِكْ كلَّ جسدِهِ بعدُ... أَغمضَ عينيْهِ وغاصَ في دهاليزِ تداعياتٍ وذكرياتٍ مُضيئةٍ حينًا ومظلمةٍ أُخرى. قادَتْهُ تلكَ التّداعياتُ المُتداخلَةُ إلى أيّامِ الشّبابِ، أيّامَ لم يكن يخافُ من شيء ويستطيعُ كلَّ شيء. فجأَةً ومن دون أَن يدري، حرَّكَتْ أناملُهُ صنبورَ الماءِ السّاخنِ القابعِ فوقَ حوضِ الاستحْمامِ، وتطايرَ الرّذاذُ في كلِّ اتِّجاهٍ، الأمرُ الّذي أَعادَ جدّي من ساحةِ تداعياتِه البعيدة. انسحبَ من الدّهاليزِ المتشابكةِ الّتي كان يمخرُ فيها، وأَخذَ يُهيِّئُ نفسَه كي يستحمَّ فيستريحَ. شعرَ جدّي وهو عارٍ تمامًا أنّه أكثرُ راحةً ونشاطًا. سُرَّ لهذه المشاعرِ المكبوتةِ وراحَ يستدرِجُها. امتدَّتْ يدُه من جديدٍ وحرَّكتْ صنبورَ الماءِ الباردَ، وبدأَ بأَطرافِ أَناملِه الهزيلةِ يُحرِّكُ سطحَ الماءِ لِيتأَكَّدَ من ضبطِ الحرارة واستوائِها، وسرعانَ ما أصبحَ سطحُ الماءِ الّذي يملأُ الحوضَ شفّافًا هادِئًا لا حركةَ فيه. أَدخلَ جدّي قدَميْه الواحدةَ تِلوَ الأُخرى، وراحَ يبحثُ عن اتّصالٍ دافِئٍ يملأُ مفاصِلَ جسده. استسْلمَ لدفءٍ لذيذٍ يغزو فيه كلَّ ثنيّة. أغمضَ عينيّه، تنهَّدَ بعمقٍ، عادَتْ به ذاكرتُهُ إلى أحداثَ موغلةٍ في القِدَمِ... تبًّا لهذه الذّاكرة. مرّةً تكونُ مُتوثِّبَةً وقّادَةً، وحينًا تخبو فتخذِلُني... تذكّرَ طفولتَه المُتأَرجحَةَ بين البؤسِ والفرحِ. تذكّرَ ذلكَ الطِّفلَ الّذي كان يلهو في الشّارع، يرتدي بنطال "الشّورت" ويقفزُ فوقَ درّاجته الهوائيّةِ... هتفَ داخلُه: "ما أجملَ أيّامَ الطّفولة"... كانَ حيُّه الصّغيرُ يبدو له واسِعًا وكبيرًا جدًّا. كانَ يمخرُ في الشّوارع بدرّاجته الّتي أعياها الزّمن. البيوتُ من حولِه تضجُّ بإِضاءاتِ أوّلِ اللّيل. تمرُّ إلى جانبِه عشَراتٌ من الظِّلالِ. وجوهٌ بلا أَسماءَ يعرفُها. بعضُ وجوهٍ لطيفةٍ مُبتسمةٍ، وبعضُها مُتجهِّمٌ، وكأَنَّما يتأَهَّبُ لِتأْديةِ فروض جنازة. شابٌّ وفتاةٌ يعبران مُتمهِّليْنِ، ينثران الضَّحِكَ والفرحَ والمرحَ وكلَّ خيراتِ الدُّنيا... آه... متى يُتاحُ لي ذلك؟. أم أنّ ذلك عالَمًا آخر!!!... أصواتُ احتفالاتٍ تثقبُ أّذنيْهِ من بعيد. إنّها حفلةُ زفافٍ. رقصٌ وغِناءٌ وعالَمٌ آخرُ... أوقفَ درّاجتَه، تأمَّلَ حولَه... مِن هناكَ، مِن خلفِ تلك السّتائرِ البعيدةِ ينبعثُ ضوءٌ خافتٌ يُخفي أَسرارًا كثيرةً... أصواتٌ هامسةٌ حينًا وضاجّةٌ أحيانًا، تتناثرُ مِن حولِه فتعيدُه إلى واقعِه الصّبْيانيّ...

خريرُ الماءِ المتواصل من صنبورٍ عُلويٍّ، قطعَ عليْه حبلَ تداعياتِه الصِّبيانيّة. سُرعانَ ما قفزَتْ به الذّكرياتُ إلى عالَمٍ آخرَ. الشّيْبُ يغزو مِفرقيْه، والزّمنُ قد بدأَ ينحتُ فيه أَخاديدَهُ. ما أروعَ تلكَ الذّكرياتِ السّعيدة. هذا البيتُ الّذي بناهُ حجرًا فوقَ حجرٍ، ولَبِنةً إلى جانبِ لَبِنة. مسحَه بِعرَقِه وأَعصابِه، ونثَرَ عليْه عُصارةَ حياتِه وعمرِه. ذاقَ مرارةَ الجوعِ والتّعبِ ليستكملَ حُجُراتِه وزواياه... عندما استقرَّتْ خواطرُه عند شُرُفاتِ البيتِ الواسعِ الجميلِ، كانتِ الفرحةُ تعمرُ قلبَه وكلَّ نبضةٍ في عُروقِه... لقد بنى بيتًا. وطَنًا. مُسْتقرًّا. أَشادَ حياةً...

شيء ما وخزَ جدّي من الدّاخل، حرّكَ فيه أَحاسيسَ لا حصرَ لها. انتصبَ في وسطِ حوض الاغتسال. أَغلقَ الصُّنبورَ الّذي كانَ يلفظُ أنفاسَه قطرةً قطرة. اشرأَبَّ على أَطرافِ أَصابع قدميْه، وراحَ عبرَ نافذةِ الحمّامِ الصّغيرةِ يُكحِّلُ ناظريْه بمرأى البيتِ الواسعِ الجميل. ابتسمَ بعمقٍ وأخذَ يُتمتمُ بكلماتٍ غيرِ مفهومةٍ وهو يهبطُ ويهبطُ ببطءٍ شديدٍ حتّى استقرَّ في قعرِ حوضِ الماء. لاحَتْ له سنواتٌ قديمةٌ مضَتْ. ركّزَ جدّي ناظريْه في المجهول. جمُدَتْ حدقتاهُ واكفهرَّ وجهُه وراحَ يستدرجُ تلكَ الذّكرى المريرةَ... انتصبَ أبي وأَعمامي في مُواجهةِ جدّي يُلِحُّونَ عليه بأَن يبيعَ البيتَ، البيتَ الّذي أَشادَه جدّي بالعرق والدّموعِ والحنانِ والأملِ. أَلحّوا عليه برفقٍ حينًا وبقسوةٍ أحيانًا..." الحياةُ هنا لم تعُدْ تُطاقُ.. عليْنا أَن نرحلَ. أنْ نبحثَ عن حياةٍ أُخرى، عالَمٍ آخرَ. يجبُ أنْ نبيعَ البيتَ ونرحلَ"... كان رفضُ جدّي أَقوى مِن إِصرارِ أبي وأَعمامي. تراجعوا عن إِرادَتِهم، ولعلَّه كان تراجُعًا إلى حين...

مزّقَتْ هذه الخواطِرُ المُرَّةُ أَحاسيسَ جدّي. لم يعدْ يُحِسُّ بشيء مِمّا حولَه. لم يعدِ الماءُ الّذي يغمرُه ساخنًا أو باردًا. شيء هلاميٌّ يُحيطُ بجسَدِه. امتُقِعَ لونُه وبدأَتْ قُواه تخورُ. صوتٌ ما هتفَ في داخِلِه: "تماسَكْ. تشجَّع"... أَسندَ كفّيْه المُرتجفتيْن إلى جانبَيْ حوض الماءِ. مدَّ ساقيْهِ ما استطاعَ. استلَّ نفسًا عميقًا. أَسندَ ظهرَه إلى أقربِ زاويةٍ من الحوضِ، وراحَ عُنقُه يترنَّحُ حتّى استقرَّ...

طالَ غيابُ جدّي في حوض الاستحمام. كنتُ أنا وحيدًا في غرفتي الخاصّةِ المُلاصقةِ لِغرفةِ نومِه. أُحبُّ جدّي حتّى الثُّمالَة. استبدَّتْ بي خواطرُ أَفزعتني جدًّا. هُرِعْتُ نحو الحمّامِ والعرقُ يتصبَّبُ مِن جبيني. استَرَقْتُ السَّمعَ فلمْ أَسمعْ أيّةَ حركةٍ أو نأْمةٍ... آهٍ... ما الأمرُ؟!. صرَخْتُ بما يُشبِه الاستغاثة: جدّي.. جدّي.. جدّي... لمْ يردْني أيّةُ إجابةٍ. مزّقني الهلَعُ والفزَعُ... أَسرعْتُ إلى والدي. كان يشاهدُ التِّلفازَ. أَسْرعَ والدي مُتلهِّفًا، واستفاقَ أخي على صخَبِنا العَجولِ. اقتحمْنا معًا بابَ الحمّامِ... كان جدّي مُسْجىً على ظهرِهِ. عيناهُ منفتحتانِ على وُسْعِهما، وهو يرسمُ نصفَ ابتسامةٍ، وكفّاهُ معقودتان إلى بعضِهما... لم يلتفتْ إلينا، فأدركْتُ وأبي وأَخي أنَ جدّي يشعرُ بسعادتِه الأخيرةِ في عالَمٍ آخرَ...

نظرْتُ إلى أبي. كان وجهُهُ مُمتقِعًا، وبعضُ دموعٍ صامتةٍ تنحدرُ على خدّيه. وسرعانَ ما احتضَنَني ملءَ ذراعيْهِ وراحَ يُجهِشُ في البكاء. لم أَستطعْ مواجهةَ الموقِف. تملَّصْتُ من بين ذراعيْه ورحتُ أَلعقُ خثَراتٍ مرّةٍ.... استدارَ أبي واتّجَهَ نحو خزانةِ جدّي بحثًا عن ثيابِه. تبعتُهُ مُتمهِّلًا. فتّشَ قليلًا وسرعانَ ما ارتدَّ إلى الوراء، وتسمَّرَ في مكانِه كجذْعِ شجرةٍ قديمة... كان يحملُ في إحدى يديْه بعضَ ملابسِ جدّي الأنيقةِ، وفي اليدِ الأُخرى، كانَ يحملُ لوحةً عريضةً أَخرجَها من خزانةِ جدّي. كُتِبَ عليْها بخطٍّ عريضٍ:

"بيتي... وطني... ليس مُعَدًّا للبيْع".     

مقالات اخرى للكاتب

قص
28 نوفمبر 2018
قص
14 أكتوبر 2018
قص
30 أغسطس 2018
قص
1 يونيو 2018

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.