}

مساء أوريكا و الكلبة روزا*

محمود علي 24 نوفمبر 2018
يوميات مساء أوريكا و الكلبة روزا*
لوحة للفنان السوري سمعان خوام

(1)

حين عانقت مساء أوريكا لم تكن قمم أطلسها قد توشحت البياض بعد، فأيلول بطقسه المتردد لا يستند إلى قرار، يحوم على هواء النسيم أو قد تغازل الشمس جبين الزوار، فذاك البياض الذي تحتضنه الجبال ذاب جرياناً في صدر وادي أوريكا ، وانتشت مع الليل مشاعر مختلطة مع عبق رائحة المطر والتين الشوكي الزاحف على خجل إلى أنوفنا الممتزجة بالدخان الرمادي المنبعث من التبغ المحلي، وفن الملحون يراقص شعلة الشمعة على نخب كؤوس الابتهاج.

ينزاح الليل، فيلج الصباح، تظلله أشجار الزيتون، والخضرة تشرع أبوابها بين السهول والتلال..
الشمس تعانق سماء القرية غراماً، والغيوم تارة تتبدد وتارة تلتحم، ويبدأ يوم القرويين بلا تهاون، تسابق الحمير أصحابها حاملة على ظهرها خيرات الجبل وطموح البسطاء، ربما كنت أودع النصف الأخير من الحلم في فناء النزل (جارة الوادي) حين شعرت بلسان روزا النبيلة يلعق وجنتي وتحتضنني. يبدو فروها الخلاسي أنيقا لامعا كلما صافحته الشمس أو نورها سامر ذاك الوبر.

روزا لاتزال في بحث دؤوب عن أب  لجروها يكافىء عراقتها، ومع كل حمل وولادة تهب للطبيعة والأصدقاء معنا لقيمة الوفاء، تسطره مع كل مولود مهدى إلى اليد التي ستتولى رعايته وتتبناه.
لم يفقدها انتفاخ بطنها وتكوره بين الفينة والأخرى رشاقتها، فهي تغدو عند كل ذهاب وإياب صبية تسابق على السلالم خفة الرياح.

(جارة الوادي) كما يطلق عليه الأصدقاء هو بمثابة بستان مسور تماهت طينة بناءه بين الرمل والحجارة والجص وخليط الصاروج، يبدو كالجانب القريب البعيد من طفولتي المركونة بين بيوت الطين وأسوار الذاكرة.
بين ضفتيّ الطريق يتماثل الباعة متقابلين، كل يعرض سلعته، ينادونني بلغة أهل الجبل، تلك اللغة التي أجهل ترجمتها حرفيا ولكنني أفهم كلماتها جملا ومعنى.

أبخرة الطعام المطبوخ في بطن الطاجن المحلي ورطوبة الفستق المنزوع  من صدر الشجرة، والجوز الأخضر البشرة ورائحة أديم زيت الزيتون على قمح الخبز، تلاقتها مقلتاي وشفتاي وهي تطالع بتأمل الوجوه الكادحة المغبرة.
وبين همس الاستيقاظ والأهداب شبه النائمة حدثتني اللوحة الخماسية المتدلية من سقف المساء مترنمة أنشودة خطاي مزاوجة بين المدينة والقرية :

(2)
ما تركه الشفق من لون معتق تتلمسه يدك في برواز المدينة 
في الحيطان والأبواب والنوافذ المبروزة من خشب شجرة العرعار
ألوان ماجوريل تشتبك مع تربة الأرض
نساء كاللقالق يحلقن بشعرهن نحو قمم الأطلس
مقاه يملؤها ضجيج هادئ 
عمال و متسولون لا يهتمون بأمر الغد
ورقصة عرجاء مع رفيقة مجنونة 
تعيد لنا خطانا الى ليل أوريكا
التي تحتضن أهل الجبل والغرباء وتنام هانئة 


(3)

نهارها سباتها و ليلها قمر 
تجر خلفها سيمفونية الفرح
رفيقة المتسكعين والباحثين عن الصمت 
موسيقاها صوت نوارس وموج البحر 
أسمال هيبيين معلقة على غصن شجرة لاغو كاغيا
وفم مفتوح في سكة ضيقة على حانة الحفرة
والكناوة يراقصون السماء كل حول


(4)
وجه مجعد مفتوح جهة الغرب
عروق سلالات منحوتة على التلال 
ومشردون يفترشون الرمال، يقبلون يد البحر
صباحات فارغة سوى من أتباع موسى النبي
وعيون تترصد كائنات الليل الملونة

 
(5)
صدى كلمة عالقة منذ الطفولة
إيقاع حروفها لم يخبرنا في أيّ إتجاه هي 
لكن الزمن كفيل أن يلقي بنا على أعتابها
لنشد خيط الجهات برفق 
ونأنس بحلمنا المنشود 
ونغني في أزقتها نشيد الطفولة

(6)
الجبل سريرها الدافئ
تلتحف السحاب 
ثيابها أندلسية، وعطرها ألوان زاهية تجري في سواقيها
 ولوركا يعزف مع الصبية أنشودة الزمان

 

 *كاتب من عُمان

 

**أوريكا: قرية في ريف مراكش، المغرب.

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
24 نوفمبر 2018

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.