}

"جهاد": أخي الذي قال راحلٌ يا أمّ وما عاد

فاتنة الغرة 18 نوفمبر 2018
يوميات "جهاد": أخي الذي قال راحلٌ يا أمّ وما عاد
عمل الفلسطيني منذر جوابرة

واقع الأمر أنك غبت مثلما فراشة لم نحظ بالوقت الكافي لحفظ ملامحها حتى اختفت من تحت انظارنا وتلاشى أثرها من أمام أعيننا، كأنك كنت حلما مر في الذاكرة، أكاد أجزم أن صوتك صار بعيد جدا إلى الحد الذي لو سمعته الآن لن أكون قادرة على التقاط ذبذباته والتعرف عليه.

اذكر مرة حينما كان عمري ثلاثة عشر عاما أنني كنت أغني على سطح المنزل لنجاة الصغيرة "آه لو تعرف يا حبيب قلبي" وكنت أظن أنني وحدي والله والفراغ من حولي، وكنت أنت هناك في غرفتك التي اخترت ان تصنع منها ملجأ سريا بعيدا عن عيون الفضوليين، وكيف تسللت من بين القضبان الحديدية للسطح كي تنزل البيت وتخبر أمي أن ابنتها الوحيدة ربما ضلت الطريق، وأنا أتساءل الآن لمَ لمْ ترني وجهك ولم تنهرني كما يليق بأخ أكبر له صلاحية الأمر والصراخ؟

دائما ما كان وجودك اشكاليًا في بيتنا، كنت أول من جلب كتبًا على هذا البيت وأول من أمسك قلمًا بيده ليكتب فيه أشعارًا بخط حاد مثل حدة نظراتك، كنت قليل الكلام لكنك إن تكلمت الكل يعرف أن هناك سوط لاذع سوف ينزل على ظهر أحد ما، لم ينج أي من في البيت من ملاحظاتك اللاذعة المستفزة والتي أعلم الآن أنها كانت وسيلتك للاختلاف، حتى أبي الذي كنت تعرف جيدًا مدى حبه للحياة وتمسّكه فيها وكرهه لأي لفظ يشير إلى الموت كنت دائما ما تستفزّه بعبارتك الشهيرة "الله يرزقك الشهادة يا حج" لتبدأ بعدها القهقهة على صراخ والدي وقاموس شتائمه الذي يمطرها عليك، ربما كنت تتعمد استفزازه رغبة منك في الانتقام لتفضيل أخي الأصغر منك عليك، كان يرى عوداتك المتأخرة وأنت تتأبط مجموعة من المنشورات أو الكتب أو تحمل كيسًا في يدك تظهر من خلاله ملابس الخروجة الليلية الخاصة التي كنت تلبسها لا لتكتب على الجدران عبارات عن مقاومة جيش الاحتلال فخطك كان أبشع من أن يليق بجدار لكنك كنت ترافق من يقومون بهذا الأمر، وأذكر مرّة ونحن على سطح بيتنا نرى الخط الموازي للشاطئ قبل أن يزحف العمران على حينا الجديد وقتها "تل الهوا" أننا رأينا رتلًا من المصفحات والمدرعات يسير على الشاطئ وفهم والدي أنهم قادمون إلينا، وإليك أنت بالتحديد، فقال مقولته الشهيرة "اللي عليه الدّور يحضر حاله يا أولاد" وكنت تعلم أن الدور عليك، نظرت حولك وقلت أن لديك بضعة ملابس للمقاومة والتي إن وُجدت ستكون دليلًا دامغًا لهم كي يرموك في السجن سنوات عدة، وربما كانت وقتها اللحظة الأولى التي أشعر فيها أني أشاركك فعلًا في المقاومة قلت لك أين هي وركضت وقلبي يكاد يخرج من صدري، كانت ثلاث بزات عسكرية لبستها فوق بعضها البعض ومن ثمّ قمت بلبس بيجامتي فوقها كي أضمن أنهم لن يعثروا عليها، وفي مرّة أخرى قام والدي بحفر حفرة كبيرة في الأرض المجاورة كي يخبئ فيها كل الكتب التي تحتويها غرفتك والتي تحرض على الوعي وعلى الاحتلال والتي كانت كثيرة بدرجة كافية لأن تعبئ حفرة بحجم فيل، كان أبي يمسك بيده "الكريك" واخي الكبير يمسك بيد أخرى المعول كي يفتحوا أكبر اتساع ممكن في الأرض ثم قام أبي بتمسيد الرمل جيدا بحرفية مقاول بناء عتيد ومن ثمّ وضع غلافا بلاستيكيًا ثخينًا كي يحمى الكتب والمنشورات من الرطوبة والبلل، سوّى أرض الحفرة جيدّا ثم اهال الكتب داخلها كأنه يهيل ترابًا على ميت وكنت تصرخ به وعروق وجهك تكاد تنفجر كي يتمهّل قليلا كي لا تتمزق كتبك المفضّلة، لكنه لم يستمع إليك فالوقت كان يداهمه لاستكمال المهمة، وبنفس الحالة الشعورية التي تمّ فيها دفن الميت أقصد الكتب أشحت بوجهك بعيدا وعيونك تلمع بدموع مخنوقة مقهورة كان كبرياؤك يأبى أن يسمح لها بالنزول، أدرت ظهرك ومشيت.

الوقت كان عصرا بعدما خفّ وهج الشمس وكنتم جميعا هناك في الشارع الذي يطل عليه بيتنا، إخوتي التسعة بكامل عددهم كانوا هناك لأول مرة منذ أن أصبحوا شبابًا يدبّون على الأرض، بعد أن كان السجن الإسرائيلي يلتهم أحدًا منهم أو اثنين، حتى أنه مر وقت لم يكن من الكبار منكم غير واحد في البيت والأربعة كانوا في السجون، وكنت أقف على سطح البيت أشادكم وأنتم تلعبون كرة القدم، كانت تلك أول مرة تجتمعون فيها كما أنها كانت آخر مرة تحفظها ذاكرتي، لماذا لم نلتقط لكم صورة كي نسجّل ذلك اليوم التاريخي الذي لن يعود، تسعة من الأولاد الذكور يشكّلون فريقا للعب كرة القدم، إخوة لأب واحد وأم واحدة تقف جوار أخت وحيدة على السطح وتقرأ عليكم المعوذات وكل ما حفظته ذاكرتها الشفهية من رقى كي تحمكم شرّ العين وشرّ الحاسدين، لم يكن وقتها لا انترنت ولا هواتف محمولة، ولم تكن لدينا في البيت كاميرا يد كي تؤرخ هذه اللحظة، كانت عيون أمّ وقلبها وكانت عيون أخت وحيدة وقلبها هما الحافظان الوحيدان لهذا المشهد الجمعي، وبعدها سافرت انت للالتحاق بالدراسة في روسيا مثلما أفهمتنا وقتها كما سافر أخوك الذي يليك إلى اميركا لذات السبب وظلت كلمة فيروز ترن " اللي بيروح مش لازم يرجع" ولم تعودا.

 كيف استطعت أن تكون بكل هذه القسوة وان تشيح بوجهك عن تجاعيد أمي التي زادت كثيرا حتى صارت خارطة مستقلة بذاتها للفقد، أمي التي هاجمها السرطان اللعين منذ عامين لكنها بصلابة وإيمان غريبين هزمته بأنفة تليق بابنة مختار تطرد متسولًا لزجًا وكنت أعلم السبب وراء هذه القوة والصلابة وأغلم أنها كانت تطرد المرض وهي تقول لن تستطيع أخذي قبل أن أراه، أظن أنك كنت السبب الحقيقي وراء انتصارها في هذه المعركة وان انتظار عودتك هو ما جعلها تقاوم بكل هذه الصلابة حتى حينما سقط شعرها وانكسرت روحها وهي المتأنقة الجميلة التي تولي اهتمام خاصًا لشعرها ولتزيينه بالحنّة كل شهرين، فجأة كانت روحها تئن وهي تخبرني بصوت مخنوق من خلال جهاز لعين يضمن لي على الأقل مشاهدة تعابير وجهها عبر المسافات واحتضن صورتها في روحي، وكأنها كنت تخشى أن تعود وتراها على غير ما تعودت منها، أمي التي لا يمرّ صباح من غيبتك الكبرى-ذلك أن لك غيبات صغرى في السجون لا يمكن تجاوزها- دون أن تدعو لك وتذكرك، لكنني أذكر قبل سفري من البيت أني كثيرا ما كنت أضبطها تحادثك وكأنك كنت هناك، وأظن أنها كانت وسيلتنا نحن الاثنتين للبوح والشكوى وأظن أنك كنت وقتها السند الخفي الذي عرفنا أنه يسمعنا دون محاكمة أو حساب، ما زالت أمي جميلة كما عهدتها على الرغم من التجاعيد التي تزحف بفعل عامل السن ورغم روحها التي تجعلها تبدو أصغر عمرًا إلا أن زحف السنين أقوى.

أنا الأخرى ظهرت لي تجاعيد خفيفة حول عينيّ اللتين كانتا تخافان النظر إليك في الماضي واللتين مازالتا إلى هذه اللحظة تفتشان عنك في وجوه المارة في هذي البلاد البعيدة والباردة والقاسية والمنافقة، مثلما امتلأت روحي بتجاعيد وندوب أكبر، بكثير وأظن أن الروح لو كانت مرئية للعيان لكان وجهها عجوزا مكرمشًا مثل ورقة كتب عليها شاعر ما قصيدة سخيفة فكرمشها حتى كانت أن تُسحق بين يديه، وروحي هكذا، ولا أنفكّ أمسّدها بيد مرتعشة وحريصة كي لا أمزق منطقة منها هشة، أمسّدها وأعلم أنه سيأتي رجل ما، رجل وحيد يلعب بها من جديد ويتلقفها بيده، يفردها برقة ونعومة لا تنبئ عن خطوته القادمة حينما يعصرها فجأةً بيد واحدة وأصابع طويلة مطوّحًا بها من نافذة بيت قصيّ، ودائما ما كنت المخلص البعيد الذي يربت على كتفي عند كل تطويحة وعند كل كرمشة.

هل كان السجن قاسياً عليك أم كان السجان أقسى، كأني أراك في سجنك العميق البعيد تسجل قصائدك الجديدة على الجدران وربما اخترعت أداة خاصة للكتابة، قد تكون شوكة أو سكينا استطعت تخبئتها من عيون الحرس الكثيفة لتكتب روحك الموجوعة والسجينة

لم أستطع إلى هذه اللحظة نسيانك حينما زرتني في منامي لآخر مرة واختفيت بعدها، كنت شاحبا كشبح ونحيلا كأنك هيكل عظمي بثوب مهلهل واندفعت أنا نحوك لآخذك في حضني لكنك تأوهت من هذا الحضن ولم يحتمل جسدك ضغط ذراعي

دائما ما كنت غريب الأطوار لا أحد يستطيع النفاد إلى عقلك ومعرفة ما يدور فيه وكنت أخاف من الاقتراب منك، كنت صغيرة وقتها ما زلت أحاول استيعاب مبرر وجودي، لم ينتهك رجل جسدي بعد ولم يكسر رجل قلبي بعد ومنذ رحلت أنت وهم يفعلون ذلك ومنذ رحلت أنت وأنا انتظر عودتك لتنقذني

حينما وصلتنا رسالتك الأولى منذ ثلاثة وعشرين عاما وقف جميع من البيت ذاهلين لانها لم تكن رسالة اعتيادية وانما كانت رسالة أدبية بامتياز وكانت موجهة إليّ أنا بالذات، لم أفهم وقتها لم ذيلتها باسمي وهل كنت تهيئني لدخول هذا العالم الموحش والغريب الذي سيصيغ مستقبلي فيما بعد، تلقيت الرسالة بغرابة وانبهار في نفس الوقت لأنني كنت أمسك بين يديّ قطعة فنية لا زلت أحفظ بعض مقاطعها من كثرة قراءتها وانت تقول " راحل يا أم، فتكسّرت تنهيدة من ثوبها وتجعّد الماضي على مرآة حاضره"، وكنت تخبرني كيف تقضي يومك بالقراءة ثلاث ساعات والكتابة مثلهما وكيف تستمتع لفيروز وكيف تسحرك بنات السودان حينما انتقلت إليها قبل اختفائك.

هل تجد الوقت الآن للقراءة والكتابة بضعف تلك الساعات؟ ها يهرّب لك السجانون أدوات للكتابة وإصدارات جديدة أم أنهم يصادرون في لحظة تفتيش مفاجئة ما يجدونه مسجلا على جلدك وتحت طيات عيونك؟

كثيرا ما يراودني هذا التساؤل أن كنت سأعرف ملامحك فيما لو التقيتك فجأة في شارع ما في دولة ما وربما لهذا أحدّق دائما في وجوه المارة مما يجعل الأمر غريبا بالنسبة لهم ويضعني أحيانا في مواقف لا أجد قدرة على تقديم تفسير منطقي لها

عشرون عامًا قد مرت منذ اختفى صوتك عن سماعة الهاتف الأرضي وستة وعشرون منذ غاب وجهك عن فضاء البيت ولازال رقم هاتفنا الأرضي كما هو فأبوك على قناعة بأنه سيبقى وسيلتك الوحيدة التي تعرفها للاتصال بنا، كما أننا لا نعلم ان كان وصلك اختراع الموبايل أو خدمة الانترنت أو إن كنت تدري بوجودهما أصلا بهذه الكيفية، ربما تدخل على الفيسبوك بحساب وهمي مثلا وتتفقدني وتقول في نفسك لقد كبرت اذن واستطاعت أن تشق الطريق الذي كنت أعرف أنها معدّة له، وربما لا تعلم أنني كنت أبحث عن رأيك في آراء كل من حولي وأتوق لأن تسمع نصي الجديد الذي أعلم انك وحدك ستفهم دواخله

لم كان عليك أن تمضي بعيدا هكذا في الغياب وفي الذاكرة وأن تترك خلفك بضعة ذكريات وصور باهتة وعدد ضئيل من المسودات والرسائل بخط يد غير جميل مقارنة بخطي

ما أريده منك أن ترسل لي الآن ولو رسالة واحدة من أي مكان أنت به وبأي طريقة ترتضيها، تخبرني كيف أهيء نفسي للسنين القادمة وهل مازال عليّ انتظار صوتك وكيف أقنع أمي ألا تنتظرك إلى الآن وكيف تكفّ عن الصراخ باسمك حينما تقع صورتك المعلقة فوق رأسها عرضها بفعل تآكل الحبل الذي يشدها إلى الحائط، يكفي أن تقول كلمة واحدة وسأتولى أنا الامر من هناك، فقط أخبرني ، تعلم كم أكره الانتظار وانه يكفي أن تقول لي أن ستغيب بعد عدة سنوات أخر لكي أنتظر لكنك يجب أن تكف الآن وإلى الأبد عن تركي معلقة هكذا على حبل انتظار رث لن يحتمل البقاء طويلا

أريد أن أودعك يا أخي كما يليق بأخت لم تعرفك جيدا، أريد وداعك وداعا يليق بكاتب وناقد كما حلمت أن تصبح، أريد أن تمنحني الفرصة لهذا الوداع فلا تطل عليّ الرد بعد فأنا في انتظارك.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.