}

يوسف

ماجد عاطف 1 نوفمبر 2018
قص يوسف
منوجهر يكتايى

كنت أراه في أماكن متفرّقة. خمسينيّ لكنه في وصف الثور، صلب وعنيف وأهوج، يلاحق هواجسه في المارة ويتحرّش بهم وقد يبطش. جنونه من نوع العته وليس المرض النفسي. يقال إنه تلقى ضربا من جنود دورية -هو شقيق شهيد- فأصبح هكذا، معتوها يعرج في الشوارع ويمشي بتلفّت وتثاقل.

كان الرجال يخافون من وجهه المربع وجسده الضخم، وكذلك النساء، فيبتعدون عن نيته المكشوفة أو المتوقعة. له أسبقيات مع العنف وربما سجن أكثر من مرة في سجن أو إصلاحية لمحته من أبوابها. ويمكنه لسبب غير معروف، أي سبب، أن يهاجم المارة أو يتحرّش بهم. لا يحسن الحديث ولا التعبير عن نفسه.

حين رأيته في المسجد، شعرت بالسرور. فها هو على علته يستجيب للفريضة التي لا تسقط عن مستشعر بالاقتدار ويركع. كنت استند للجدار أتأمله معجبا به. والتقت عيناي بعينيه، فتبسّمت له وحيّيته بعد أن أنهى "السُنّة".

جنّ جنونه واندفع نحوي رافعا ذراعه ليضربني، كانهيار صخري. فسّر تبسّمي أغلب الظن سخرية، كما اعتاد. عرفت في قسوة اندفاعه معاملة الآخرين له، وعرفت اضطراره للرد، ربما بالطريقة المختصرة التي يستطيعها.

وأفهم هذا أيضا.

ورغم أننا في المسجد فقد توعّدني بكلمات لا فحش فيها، فامتنعت عن الرد واخفضت بصري، كما لو لقيت في الغابة دبّا. ثم كففت عن التواصل الصوتي أو البصري معه، بينما صوته يعلو أكثر وأكثر.

وأدهشني حين تدخل أخيراً مصلٍ عجوز عاين ما حدث وناداه بالاسم، أنه استجاب وهدأ.

هل ردة فعله نحوي لأنني غريب أم لشيء آخر؟ ربما التقط شعوره ذلك الإحساس داخلي ويدفع للفضول، ويغضب بالتالي الآخرين الواقع عليهم.

عاد ليصلي وعدت لتأملي مع التحوط من عدم استفزازه. وصلى مع الجماعة كأي مصل آخر.

ثم اختفى ولم أعد أراه، لأسابيع وأشهر.

//

وكنت قلقا مشغولا أفكر في أشياء وأنا امضي للسوق لأشتري أشياء دوّنت لي، حين رأيته مجدداً. فوراً تذكّرت حماقة اقترفتها عن وعي وسابق إصرار.. لا أختلف عنه سوى أنني غير معتوه وأستطيع التعبير عن نفسي، وأنه لا أحد يلتفت إلي أو يخاف مني.

كان يتسوّل على الرصيف بشطر آية حفظها من المسجد أو الصلاة، طليق الذقن، هادئ الطباع ويبسط يده متقدما ببطء شديد ويعرج. وكم شعرت بالسعادة حين عادت له صبية في العشرينيّات، ومع بعض الخوف وضعت قطعة نقدية في يده ثم ارتدّت. دون أن تعي الصبية أحست.

أنا واثق أن أعصابه لا تسمح له بالعمل، وأن علاقته بمحيطه القريب مسدودة، وأن الغرباء هو خياره لشيء يشعر بالحاجة الماسة إليه..

إلا أن يكون "نصّابا"، لا أحد –بمن فيهم المجانين والمتسوّلون- يطلب شيئا حسّيا كمأكل أو مشرب  أو مال، ولكنه الإعلان الغامض لمحاولة الحصول على حميمٍ مبهمٍ وأعمق وأهم بكثير، لا يُطب.

ولا تختلف خياراتي أنا كثيرا عنه، سوى أنني كنت لأفضّل التشرد والتسكّع!

اسمه يوسف، ورحمة ربي وسعت كل شيء.



*كاتب من فلسطين

مقالات اخرى للكاتب

قص
10 أبريل 2022
قص
1 نوفمبر 2018

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.