}

الشَّبح

إسكندر نعمة 14 أكتوبر 2018
قص الشَّبح
لوحة للفنا إبراهيم برغود

اشتدَّ الخلافُ بينهما أكثر. تحوَّلَ إلى ما يشبهُ الطّقوسَ اليوميّةَ. أصبحَ عادةً يمارسانِها في كل يوم. خيوطٌ واهيةٌ ظلَّتْ تربطُ حياتَهما.

في طريقِ عودتِهما من معملِ "البسكويت" الّذي يعملان فيهِ معًا، كانا ينتعِلانِ أَرصفةَ الشّارع الطّويلِ المُؤدّي إلى بيتِهما. كان الشّارعُ والكونُ من حولِهما يغطُسانِ في ظلامٍ شبهِ دامسٍ. وعبرَ الصّمتِ المُطبِقِ الّذي لم يكن يُزعجُهُ إلاّ وقْعُ ضرَباتِ أَحذيتِهما على بلاط الأَرصفة، كان سعيدٌ يغطسُ أيضًا في متاهةِ تفكيرٍ مُشتَّتٍ تائهٍ لا قرارَ له. لم يكن هناكَ قمرٌ يُنيرُ صفحةَ السّماءِ والدُّنيا مِن حولِهما. البيوتُ والأَشجارُ المحيطةُ بالشّارع المُمتدِّ إلى بيتِهما، كانتْ تبدو تحتَ جنحِ الظّلامِ كبيرةً ضخمةً وغيرَ مأْلوفة.. ساقتْهُ أَفكارُهُ المُبعْثرةُ المُتداخلةُ، إلى تذكُّرِ الشِّجارِ الحادِّ والسّاذجِ الّذي احتدَمَ بينَهما منذُ أيّامٍ قليلةٍ في بهو البقّاليّةِ الكبيرةِ. كلٌّ منهما كان يرفضُ رغبةَ الآخرِ فيما يودُّ شراءَهُ. تشاجرا لحظتئِذٍ بعنفٍ وشراسة. قالَ في خبيئَتِهِ: "شِجارٌ ساذَجٌ لِأَسبابٍ أكثرَ سذاجة". كلٌّ منهما رمى بما اشتراهُ الآخرُ أرضًا، وراحَ يُسفِّهُ رغبتَهُ المُتدنِّيةَ، وقد وقفَ النّاسُ حولهما بين متأَلِّمٍ وآسِفٍ ومُتفرِّجٍ. أسبابٌ تافِهةٌ.. ولكنَّهم تشاجرا بما فيه الكفاية. تذكَّرَ والأَلمُ يعتصِرُهُ، أنّه وقتئِذٍ تداركَ النّتيجةَ المأساويّةَ، بأنْ انحرفَ في الاتِّجاهِ الآخر وهو يصيح: "يا إلهي.. يا إلهي.. وماذا بعدُ؟!".. ثمَّ التفتَ نحوها صائِحًا: "لستُ طِفلًا.. ولسْتِ أُمّي.. و.. و".

 تلكَ الذِّكرياتُ المُرَّةُ أَزعجتْهُ وزرعَتِ الأَلمَ والخوفَ في نفسِهِ أَكثرَ فأكثرَ، وبعدَ ذلكَ انقطعَ حبلُ التّواصلِ والحديث بينَهما، وظلَّ الصّمتُ المَقيتُ يُجلِّلُ حياتهما ويقضِيانِ السّاعاتِ الطّويلةَ كمَنْ يضغَطُ بلِسانِه المحمومِ على أَضراسٍ متأَلِّمةٍ. 

ها هما يسيرانِ الآنَ على أرصِفةِ الشّارعِ الهادِئِ المُظلِمِ وحيديْنِ، والصّمتُ ثالِثُهما. دفعَهُ الصّمتُ المُطبِقُ لأَن يخوضَ في دهاليزِ تداعياتٍ عشوائيّةٍ. ماذا لو أنّهُ استقلَّ بنفسِهِ وعاشَ وحيدًا!!.. ينجو بذاتِه.. يملكُ حريّةَ تصرُّفاتِه.. ينأَى بحياتِهِ عن سياطِ الشِّجارِ المشحونِ بالألم والأَسف..

كانا ما يزالانِ يُزعِجانِ صمتَ الأرصفةِ، ويُنقِّبانِ في عتمةِ الكون.. فكرةُ الانفصالِ والتَّفرُّدَ تعمَّقَتْ لديْهِ. سيُصبحُ سيِّدَ مكانِهِ وزمانِه. لا أَحدَ يُنغِّصُ عليْهِ قرارَهُ.. لكنَّ اللّوحةَ بدَتْ لهُ باهتةً قاتِمةً. لم يشعُرْ بالسُّرورِ والانتعاشِ. تباطَأَ تفكيرُهُ. دخَلَ في التواءاتِ متاهاتٍ أُخرى.. البيتُ.. الأولادُ.. العملُ.. النّفقاتُ.. الملكيّةُ الخاصّة.. الملكيّةُ العامّة.. مزَّقَتْهُ خواطرُهُ المتأَرجحةُ. انتصَبَ في داخلِهِ شعورٌ مُغايرٌ. هبّت عليْه نسائِمُ منعشةٌ. أحسَّ بأَنّهُ يخرجُ مِنْ عنقِ الزّجاجةِ، ويقفُ في مواجهةِ سدٍّ موحش.. صاحَ في أعماقِهِ: "يا إلهي.. يا إلهي..".

كانا ما يزالانِ يمخُرانِ العتمةَ ويطويانِ الشّارعَ المُمتدَّ إلى بيتِهما. فجأَةً وبشكلٍ قسْريٍّ عادَ عن تداعياتِهِ. خبطةُ قدمٍ عنيفةٌ وسريعةٌ تدقُّ الرّصيفَ خلفَه، التفتَ بتوتُّرٍ وخوفٍ ينبضانِ في عروقِهِ. جفِلَ بسرعةٍ طائشةٍ، شعَرَ وكأَنَّ كوبًا مِن سائِلٍ لَزِجٍ باردٍ جدًّا يرشُّ وجهَهُ بعنفٍ ويُحوِّلُهُ إلى شبهِ أَعمى لا يرى طريقَهُ. صرخَ سعيدٌ من أعماقِهِ صرخةً ندَّتْ عن الخوفِ والاستنكار. الشّبحُ مرَّ مُسرِعًا تحتَ ستارِ الظّلام وانقضَّ يتمترسُ في مُنعطَفِ الزّاويةِ القريبةِ الّتي ينتهي إليْها الشّارعُ المُظلِمُ، وصوتٌ مُجلجِلٌ صدرَ عنه يُزمجِرُ ويتوعَّدُ: "أَكرهكُما.. أكرهُ أمثالَكُما.. أكرهُ حياتَكُما"، وراحَ يختلِسُ النّظرَ إليْهما، ثمَّ اختفى سريعًا إلى حيثُ لا يدري أحدٌ.

أُصيبَ سعيدٌ برعشةٍ اخترَقَتْ أرجاءَ جسدِه. تقطَّعَتْ أنفاسُهُ. اصطكَّتْ رُكبتاهُ وصاحَ مذعورًا: "مَنْ هذا؟!. مّنْ يكون؟!". وامتدَّتْ يدُهُ المرتجفةُ لِتمسحَ السّائِلَ اللَّزِجَ عن عيْنيْه وخدَّيه..

كانتْ ليلى إلى جانبِهِ هادئَةً صامتةً لا تُبدي حراكًا. بعد لحظاتٍ خرجَتْ عن صمتِها وقالَتْ بصوتٍ مُتحشْرِجٍ: "أعتقِدُ أنّني قد رأيْتُه من قبلُ، ولكن في وضَحِ النّهار، ليس في اللّيلِ المُظلِمِ". وتابَعَتْ: "رأيتُه وهو يحشُرُ رأسَهُ في قلنسوَةٍ ضيِّقةٍ، ويشُدُّ جسَدَهُ في إزارٍ عريضٍ. أعتقِدُ أنّه غيرُ مؤذٍ. إنّهُ مجرَّدُ شبحٍ لا أكثر". 

صاحَ من جديدٍ: "يا إلهي.. يا إلهي.. إنّهُ نوعٌ منَ أنواعِ ال...ال"، وتلجلجَ لسانُه وانقطعَ عن الكلام.  قالَتْ ليلى: "العنفُ.. الإرهابُ.. التّخويفُ.. هذه الكلمةُ الّتي تبحثُ عنها". أجابَها وقد انطلَقَ لسانُه: "نعم إنّه العنف والإرهابُ والقسوةُ.. عليْنا أن نتَّخِذَ الحيطةَ والحذرَ. أن نحمي أنفسَنا، نُحذِرَ أولادَنا، نوصِدَ الأبوابَ".

عندما بلغ سعيدٌ وزوجتُه الزّاوية القريبةَ في نهاية الشّارع، لم يقعا له على أثَر. كان الانحناءُ الآخرُ من الزّاويةِ مُضاءً بِقِنديلٍ مُشِعٍّ، وتحتِ وميضِ الضّوءِ المنتشِرِ تناهَتْ له ابتساماتُها اللّطيفةُ الهادئةُ. تلفّتَ سعيدٌ حولَه، أرسلَ نظراتِه في كلِّ الاتِّجاهاتِ، بدَتْ له السّاحةُ المُتفرِّعةُ عن الزّاويةِ هادئةً مُطَمئِنةً. شعرَ أنّه بحاجةٍ لأنْ يبتسمَ ويُبدِّدَ الصّقيعَ مِن حولِه. التمعَ في عينيْه نورٌ عميقٌ وهمسَ في خبيئَتِه: "حسنًا.. حسنًا". استردَّ أنفاسَهُ بعمقٍ. أحسَّ بأنَّ شيئًا ما يفصِلُه عن أيّامٍ مُظلِمةٍ مضَتْ. أقبلَ نحوَها. طوَّقَها بذراعيْهِ وشدَّها بليونةٍ نحوَهُ. غرسَ ناظِريْهِ في وجهِها وعيْنيْها، وببطءٍ امتدَّتْ ذراعاها اللّيّنتانِ لِتطوِّقَ جسدّه النّحيلَ. سارا مُتلاصِقيْنِ وقد أصبح البيتُ على مرمى خُطواتٍ قليلةٍ لا أكثرَ...  

مقالات اخرى للكاتب

قص
28 نوفمبر 2018
قص
14 أكتوبر 2018
قص
30 أغسطس 2018
قص
1 يونيو 2018

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.